لجنة التحقيق تعلن تقريرها: (17.8) مليار جنيه جملة الاختلاسات بواسطة مكتب والي الـخرطوم
عقارب الساعة كانت تقترب من الثانية عشر من ظهر أمس (السبت)، الجميع بدأ يحبس أنفاسه عندما دخل طاقم لجنة التحقيق التي شكلتها وزارة العدل ـ في أخطر قضية تزوير واختلاسات وثراء فاحش ومشبوه ـ إلى أروقة قاعة وزارة العدل لكشف ملابسات قضية (فساد) بعض منسوبي مكتب والي الخرطوم “عبد الرحمن الخضر”. وبدأ الصحفيون يتململون وبدت عليهم علامات عدم الرضا عن الإجابات التي أوردتها لجنة التحقيق، طالما أن المتهمين الرئيسيين في القضية أخلت السلطات العدلية سبيلهما وفقاً لقانون الثراء الحرام والمشبوه لسنة (1989م)، بعد أن ثبت للجنة التحقيق تورطهما في تزوير واختلاسات فاقت حصيلتها المالية (17.835) مليون جنيه (مليار بالقديم) دون أدنى عقوبات تطالهم. وبدأ البعض يتساءل لماذا يحاسب ويحاكم السارق والنشال العادي الذي يسرق حفنة من الجنيهات من عامة الناس، ويترك الذي يزوّر ويختلس المال العام ؟ ما يعمّق من فقدان الثقة بين المواطن والسلطة المفقودة أصلاً.
تشكيل اللجنة وصلاحياتها
بدأ الحديث هادئاً من قبل رئيس لجنة التحقيق مع بعض منسوبي مكتب والي الخرطوم المستشار “خالد أنس”، الذي ابتدر الحديث بأن والي الخرطوم “عبد الرحمن الخضر” دفع بتقرير رسمي إلى وزارة العدل بتاريخ (22) مارس (2014م)، أورد فيه أن اثنين من منسوبي رئاسة الولاية امتلكا عدداً من العمارات والعربات والأموال. وطلب الوالي من وكيل وزارة العدل تشكيل لجنة وفق رؤية الوزارة لتقديم المصلحة العامة. ويضيف المستشار رئيس اللجنة أنه بموجب خطاب من الوالي للوزارة تم تشكيل هذه اللجنة، وأن اللجنة استمعت للمُبلغ وهو جهاز الأمن والمخابرات الذي مد والي الخرطوم بتلك المعلومات. وقال إن لجنته أجرت التحريات اللازمة في القضية وتوصلت لحزمة من النتائج.
من أين لك هذا؟
اكتفى رئيس اللجنة بتلك المقدمة وترك إكمال بقية التفاصيل إلى نائب رئيس اللجنة المستشار “ياسر أحمد محمد صالح”، الذي أورد أن قرار تشكيل اللجنة صدر من وكيل وزارة العدل وأن الوزارة يحق لها تشكيل لجان التحقيق عندما ترد إليها أي معلومات، فتقوم بإجراء تحقيق إداري عادي أو إجراء تحقيق نيابي. ويضيف أنه بناءً على ذلك يمكن منح لجنة التحقيق سلطة وكالة النيابة. ويقول إنه بالفعل تم تشكيل اللجنة برئاسة مستشارين وعضوية ممثلين للشرطة وجهاز الأمن والمخابرات، وعضوية حكومة ولاية الخرطوم، للتحقيق في التقرير الذي أحاله والي الخرطوم لوزارة العدل. ويشير إلى أنه بناءً على الطلب المقدم فإن وزارة العدل لديها سلطة تقدير منح اللجنة سلطات وكالة النيابة، وهي سلطة مختصة بالوزير. ويقول إن اللجنة مُنحت أيضاً سلطات مكافحة الثراء الحرام. ويضيف أن السبب هو أن التقرير الذي تمت إحالته من الوالي لوزير العدل أشار إلى معلومة مهمة جداً، وهي أن الموظفين الاثنين المذكورين يعملان في الولاية وبدأت تظهر عليهما علامات الثراء الذي يفوق دخولهما ورواتبهما ومخصصاتهما، وفي ذات الوقت لا توجد في حيازتهما أموال تؤهلهما لامتلاك تلك الثروة الطائلة والمهولة بحسب المستشار نائب رئيس اللجنة.
ويضيف المستشار أنه في البداية أجرت حكومة ولاية الخرطوم تحقيقاً داخلياً، ولم يتبين لها وجود أي اختلاسات أو تزوير عبر الأوراق الرسمية داخل مكتب الوالي، وأن جميع العهد سليمة. ويقول لكن هنالك ملاحظات من قبل سلطات الولاية بأن هناك ثراءً فاحشاً بدأ يظهر على هذين الموظفين، ولابد من معرفة مصدر هذه الأموال. ويمضي بالقول إلى أن اللجنة فور تشكيلها شرعت في الإجراءات والتداول حول هذه المعلومات، وتساءلت حول القانون الأنسب للتطبيق وكيفية التحري. ويقول إن اللجنة توصلت إلى أن المعلومات الأولية تشير إلى النشاط الظاهر للموظفين المتهمين وأن هناك تضخم في الثروات وتضخم في الممتلكات، ومن أين جاءت تلك الأموال ولم تكن حينها معروفة. ويضيف أن اللجنة وجدت أن القانون الأمثل للتطبيق هو قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه لسنة (1989م). ويذهب بالقول إنه عندما بدأت لجنته الاستماع إلى الجهة المبلغة أوردت أن (فلان وفلان) صارا يمتلكان كذا وكذا، ولم تكن كل الممتلكات بأسماء المذكورين.
ويقول المستشار إن اللجنة بدأت عملها من هذه الزاوية وأن المنهج في التحري هو رصد كافة الممتلكات التي وردت في تقرير والي الخرطوم لوزارة العدل، وتلك الممتلكات التي قد يكشفها التحري الذي تقوم به اللجنة باعتبار أنها تمتلك سلطات وكالة النيابة وتتحرى في كل الممتلكات التي لها صلة بهذين الشخصين، وأن منهجها يقوم على سؤال الشخص (من أين لك هذا)، باعتبار أن الثراء الحرام يُعرف بأنه أي شخص يمتلك مالاً يتم الحصول عليه بدون عوض أو بغبن فاحش أو بالمخالفة لأحكام القوانين، أو القرارات التي تضبط سلوك العمل في الوظيفة العامة أو باستغلال سلطة الوظيفة العامة أو نفوذها، بوجه ينحرف بها عن الأغراض المشروعة والمصالح العامة، أو الهدية المقدرة التي لا يقبلها العرف أو الوجدان السليم للموظف العام من جانب أي شخص له أي مصلحة مرتبطة بالوظيفة العامة أو ممن يتعاملون معه، أو نتيجة معاملات ربوية بكافة صورها أو نتيجة معاملات رسمية أو صورية تخالف النصوص والمعاملات.
فحص الممتلكات
وكشف المستشار القانوني أن لجنته قامت باستجوال الوالي مرتين وفحص كافة الممتلكات التي تخص الموظفين المتهمين بجانب فحص تاريخ تملكهما لها وكيفية تملكهما لها، وأن اللجنة توصلت إلى أنه ليس كل ما بحوزتهما جاء عن طريق الحرام، وهنالك ممتلكات تملكاها قبل دخولهما للوظيفة العامة في حكومة الولاية، وبعضها جاء عبر إجراءات سليمة. ويقول لكن اللجنة وجدت أملاكاً لم يستطيعا تبريرها وهي مثار الشك.
استغلال النفوذ
ويمضي بالقول إنه من خلال التحري أقامت لجنة التحقيق بينة كافية بأن هذين الشخصين استفادا من تواجدهما في مكتب الوالي من خلال استغلال نفوذهما بقربهما الوظيفي، وأن الوالي ووزير التخطيط العمراني لديهما سلطات بتخصيص قطع أراض للدستوريين أو بعض موظفي الدولة، وفقاً لقانون التخطيط العمراني الذي منحهما بعض الامتيازات فيما يتعلق بتخصيص قطع الأراضي لهما، وفقاً للوائح التي تنظمها وزارة التخطيط العمراني، ولدى الوالي الحق في تخصيص وتخفيض الرسوم التي تدفع و(هذه السلطة يمارسها الوالي وفقا لتقديره لدى بعض الجهات والدستوريين أو بعض الشخصيات العامة في المجتمع). ويصدر خطاب من الوالي إلى وزير التخطيط العمراني يتم تحويله إلى مدير عام التخطيط العمراني بتخصيص قطعة الأرض، وهذه القطعة بموجب قرار التخصيص والتخفيض تخصص للشخص المعني وتبدأ إجراءات التمليك.
ويوضح المستشار نائب رئيس اللجنة أنه لتفادي الاحتيال والغش تم تخصيص موظف لهذه الوظيفة لإرسال وتسليم الخطابات ومكاتبات الوالي للجهات المختصة، ومن بينها وزارة التخطيط العمراني ومصلحة الأراضي. ويقول إن الذي حدث هو أن هذين الشخصين استغلا ثقة الحكومة فيهما باعتبارهما الجهة التي تقوم بتسليم خطابات الوالي بتخصيص بعض القطع في الأحياء الفاخرة، خاصة وأن أسعار بعض القطع في الدرجات العالية تكون عالية جداً. ويقوم الموظف بالحصول عليها بموجب تخصيص وتخفيض. ويضيف أن اللجنة تتبعت كل تلك الأموال وأن الأموال التي نتجت عن التزوير بدأت قصتها بتخصيص قطعتين أو ثلاث في بعض الأحياء الراقية، وأن المبالغ المحصلة من قطعة الأرض يتم تحريكها في عمل آخر والقيام بشراء قطع أراضٍ في مناطق أخرى، وبدأ المال في النمو و(هذا الذكاء استخدماه في الأراضي والسيارات).
ويكشف المستشار أن احد الموظفين بدأ بعربة (فيستو) وبدأ بتأجيرها ومن عائد ايجارها بدأ في شراء عربة أخرى (اكسنت)، حتى تطورت في النهاية إلى سيارة (سبورتاج). ويقول إن اللجنة بدأت في تتبع أموال أولئك الموظفين وكيفية الحصول عليها. ويخلص إلى أن قانون الثراء الحرام يقول إن الشخص الذي في مواجهته بينات من حقه (التحلل) من تلك الأموال وأموال أطفاله وزوجته، وهذين الشخصين إمعاناً في التخفي استعانا ببعض الأشخاص العاديين وليس الموظفين (وليس لديهم أي صلة بالدولة وليست قرابة من الدرجة الأولى، سجلا بعض هذه الممتلكات بأسماء هؤلاء الأشخاص). وإمعاناً منا في التحري ووصولاً للحقيقة أحضرنا هؤلاء الأشخاص وأخذت أقوالهم في المحضر، للتأكد من أن هذا المال هو كل المال أم أن هناك أموالاً أخرى.
ويخلص المستشار إلى أنه في النهاية أثبت التحقيق أن قطع الأراضي التي تم استردادها هي (9) قطع بجانب (5) سيارات فخمة، وأن المبالغ المالية المضبوطة كانت (2.4) مليون جنيه وأن إجمالي سعر الأراضي والسيارات والمال الفعلي بلغ (17.835) مليون جنيه، وأن المتهمين (تحللا) وأن القانون ينص على أنه يجوز لكل شخص أثري ثراءً حراماً أو مشبوهاً أو ساعد في الحصول عليه أن يحلل نفسه، هو أو زوجه أو أولاده القصر قبل فتح الدعوى الجنائية ضده والقانون فيه شرطان رد المال موضوع الثراء الحرام أو المشبوه، وبيان الكيفية التي تم بها الحصول عليه، وهذا ما تم. وأن الموظفين المتهمين ردا المال وكل الأموال التي تحصلت عليها اللجنة من خلال التحريات تم استردادها، وأن المتهمين أخطرا اللجنة بكيفية حدوث التزوير والاختلاسات، وتم استرداد كل الأموال وبذلك يتحللان ويخلى سبيلهما.
د. “البخاري الجعلي”: الانقاذ ابتدعت (التحلل)
ويرى الخبير القانوني الدكتور “بخاري الجعلي” أنه من المؤسف حقاً أن بدعة ما يسمى بـ(التحلل) التي ابتُدعت في عهد (الإنقاذ) بقوة قد قصد بها تعطيل القانون الجنائي السوداني لسنة (1991م)، فكل هذه الوقائع التي رشحت في الصحف، إن كانت دقيقة فإن من الواجب أن يقدم مرتكبوها للمحاكمة تحت طائلة القانون الجنائي السوداني.
ويذهب إلى أن مسألة (التحلل) وإن كانت في ظاهرها تعكس استرداد بعض أموال الدولة، إلا أن هذا الاسترداد كان يمكن أيضاً أن يتم في إطار محاكمات جنائية نزيهة، بالإضافة إلى إصدار العقوبات والجزاءات التي تنطوي على القانون الجنائي، لتكون عبرة لمن يعتبر (لكننا بكل أسف نسمع كل يوم (تحللاً) من القانون الجنائي لأسباب لا تنطلي على أغبى الأغبياء).