حوارات

(المجهر) تقلب أوراق العمر مع الأستاذ "كمال الجزولي" السياسي والمحامي (2-2)

لأستاذ “كمال الجزولي” السياسي والمحامي والصحفي شخصية مزاجية ومتمردة على الحياة منذ أن كان يافعاً، وهو موسوعة من العلم والثقافة والأدب وشخصية لطيفة إذا جلست معها وعرفتها جيداً، تنقل في حياته السياسية ما بين حركة الإخوان المسلمين وحزب الأمة جناح “الصادق المهدي”، ولكنه آثر الخروج منه بهدوء كما خرج من حركة الإخوان المسلمين وانتقل إلى الحزب الشيوعي السوداني. حاولنا أن نقلب معه أوراق العمر منذ الميلاد والنشأة والدراسات وأسباب ميله إلى جانب الأم الأنصارية دون الميل إلى جانب أسرة الأب الختمية.

حاولنا أن نتعرف على محطات هامة في حياته والتنقل من حزب إلى آخر، علاقته بالراحل “عبد الخالق محجوب” و”محمد إبراهيم نقد” و”الصادق المهدي”، وما هي أسباب إلحاق الشيوعيين بالإلحاد وهل حقاً الشيوعيون يصلون ويصومون ويحجون، أسباب الخلاف داخل الحزب الشيوعي بعد 1971م، بجانب الهوايات التي كان يمارسها، كتب شكلت وجدانه، أيام الفرح التي عاشها وأيام الحزن، مدن راسخة بذاكرته داخلياً وخارجياً، فنترك القارئ مع الجزء الأول من حوارنا مع الأستاذ “كمال الجزولي” السياسي والصحفي والمحامي.

} هل تذكر أول مرة اعتقلت فيها.. وما هو السبب؟

– اعتقلت أول مرة في عام 1974م، أنا وشقيقي “حسن” بسبب أوراق عدّتها الأجهزة الأمنية منشورات كتبت بخط يدي وهي جاهزة للطباعة والتوزيع، ولكن حقيقة أنا لم أعرف تلك الأوراق ولم أكتبها، ولكن خبير الخطوط زعم أنها بخط يدي، وبهذا الزعم أدانتني المحكمة، فيما أطلق سراح شقيقي، ومنذ ذلك الوقت لم تعد لديّ ثقة في ما يسمى بخبراء الخطوط، وأعتقد أنها مهنة ظالمة وأنا واحد ممن ظلمتهم تلك المهنة.. حتى وأنا داخل المحكمة قلت لخبير الخطوط: (أنت كذاب).

} ما هو الحكم الذي صدر ضدك؟

– أصدرت المحكمة عليّ حكماً بالسجن لمدة خمسة عشرة شهراً، ولكنها خففت في الاستئناف بفضل الأخوين “كمال خليل” و”مشاوي” إلى ستة أشهر.

} ماذا استفدت من فترة حبسك داخل السجن؟

– أولاً عرفتني بجو السجن وتقاليده، وعلمتني كيف أكون صبوراً وهيأتني لاعتقالات قادمة، كما عرفتني بشخصيات عظيمة مدنية وعسكرية.

} أمثال من؟

– عرفت داخل السجن الخاص بالمعتقلين السياسيين الأخ “عبد الرحيم محمد شنان” و”عبد العظيم سرور” و”أحمد الحسين” رحمة الله عليه، و”صلاح بشير” و”فيصل مصطفى” وكان هؤلاء من ضباط 19 يوليو، ورغم عدم حضوري لانقلاب مايو ولا يوليو لكن فرحتي الكبيرة أني تعرفت على هؤلاء الرجال داخل السجن واستمعت منهم مباشرة للروايات الكاملة عن 19 يوليو وغيرها.

} ماذا كان برنامجكم داخل السجن؟

– كنا نقيم الندوات والمحاضرات، وأحياناً تكون المحاضرات في شتى العلوم، وأحياناً تكون محاضرات يتحدث فيها الشخص عن نفسه وعن تجاربه الشخصية، والمحاضرات التي يتحدث فيها الشخص عن سيرته تكون من أمتع المحاضرات، فعندما تحدث لنا “عبد الرحيم محمد خير شنان” لم نكن لنحصل على تلك المعلومات ولا يمكن أن نقرأها في كتب التاريخ أو في المذكرات، تحدث عن معلومات كنا نسمع بها ونحن صبية حينما قيل إن “شنان” جاء واحتل المجلس العسكري وحاصر “عبود” في الصباح الباكر و”عبود” أدخله المجلس العسكري، وكيف خرج من المجلس، ومسألته مع انقلاب “نميري” ومن الذي وشى به.. وتعرفت داخل السجن على بعض الشخصيات الأخرى مثل الدكتور “زكريا بشير إمام” وهو من الإخوان اعتقل بسبب ندوة تحدث فيها داخل جامعة الخرطوم، وشخص آخر من الإخوان وآخر يدعي “محمد يوسف” من حزب التحرير، وهؤلاء كانوا يبتعدون عنا رغم محاولتنا التقرب منهم، وعندما خرجنا من السجن لم تكن لدينا بهم علاقة.

} بعد السجن ظللت في صفوف الحزب الشيوعي فاعلاً ونشطاً؟

– نعم ظللت فاعلاً ونشطاً في الحزب الشيوعي وحتى الآن، لكن من المحطات المهمة التي اختارني فيها “عبد الخالق محجوب” أن أعمل إلى جانبه بعد تفريغي من صحيفة الحزب، وأذكر وقتها كان يعد كتاباً عن اليسار الجديد، واليسار الجديد وقتها كان موجة طاغية في أوروبا وبالأخص في باريس وروما، وكانت المراجع متوفرة له، وكان يؤشر على بعض الأشياء فأقوم بتلخيصها، وكنت أذهب صباحاً إلى مكتب “عبد الخالق” بمنزله بالشهداء أم درمان، ووقتها لم يكن “عبد الخالق” متزوجاً، وأنا داخل منزله كنت أرى بعض الشخصيات التي تأتيه صباحاً تشرب معه الشاي والقهوة وأحياناً تتناول معه وجبة الإفطار.

} من هم أولئك الأشخاص؟

– أذكر من الشخصيات المهمة وقتها “الشريف حسين الهندي” وكان وقتها وزيراً للمالية، وبحكم سني الصغير آنذاك لم أفهم شيء عن تلك العلاقات، ولكن حينما أنظر إليها ما وراء السنوات الطوال أشعر إلى أي مدى كان “عبد الخالق” عظيماً، وكذلك “الشريف حسين” فقد استطاعا أن يفصلا بين علاقتهما السياسية وبين مزاجهما الشخصي وصداقتهما.

} وشخصيات أخرى؟

– كان المرحوم “الوسيلة” و”أبو اليسر” من كبار الاتحاديين وكانت تربطهما بـ”عبد الخالق” علاقة اجتماعية، و”عبد الخالق” كان سودانياً أصيلاً بقدر ما كان شيوعياً باسلاً.

} من المحطات المهمة الأخرى في حياتك؟

– محطة مهمة في حياتي عندما انتقلت للعمل بالمكتب المركزي للفنانين والأدباء الشيوعيين، وكان معي الأخ الدكتور “عبد الله علي إبراهيم” وقد ربطتني به علاقة حميمة منذ زمن طويل، وأذكر أن “عبد الخالق” كان مهتماً بالمبدعين داخل الحزب، ومن هذه الزاوية تعرفت عليه، وأحياناً عندما يأتي للأخ “عبد الخالق” أحاول أن أخرج لأتركهما وحدهما فكان “عبد الخالق” يصر أن أبقى، وكان يشركني في النقاشات التي تدور دائماً، وفي ذلك الوقت كانت لديّ بدايات في الشعر والكتابة النثرية، فكان يشجعني، وكان يرى فيّ مشروع شاعر وناقد، وكان يعلق على بعض أفكاري وآرائي.. وكانت بيني و”عبد الله علي إبراهيم” علاقة مميزة بحكم أنني كنت أحركه بسبب اختفائه، وأقول لك سراً لم أقله لـ”عبد الخالق” إنني لم أكن سعيداً بأن يتفرغ “عبدالله علي إبراهيم” للعمل الحزبي.

} والسبب؟

– السبب أن الشخص حينما يكون متفرغاً لا بد أن يعيش حياة سرية وأن يكون لديه اسم آخر غير اسمه، وحينما يكون الشخص مبدعاً يكون محتاجاً للتواصل مع جمهوره، فكيف إذاً يتم التوافق بين هاتين المسألتين.. لقد حاولت أن أوفق بين ذلك، فكنت أحمل بعض كتاباته وأنشرها في بعض الصحف السودانية باسم مستعار كـ”إبراهيم علي إبراهيم” وفي ذات يوم أدخلته بعض الكتابات في اشتباك مع القاص والروائي “إبراهيم إسحق” حول قضية اللغة، فدار سجال بينهما على صفحات الصحف، وأذكر أنا و”إبراهيم إسحق” كنا نلتقي في الندوة الأدبية، وفي أحد الأيام باغتني بسؤال مفاجئ من هو “إبراهيم علي إبراهيم” هذا الذي دخل معي في سجال عن اللغة بالصحيفة، فحاولت أن أتمالك نفسي وقلت له: (أيش عرفني) وفراسة “إبراهيم” وقتها كانت مخيفة فأربكتني، ولكن أستاذ “إبراهيم إسحق” كان شخصاً لطيفاً وودوداً ولم يكن شخصاً مضراً.

} وكيف تعرفت على الراحل “نقد”؟

– في فترة السبعينيات تعرفت على “نقد”.. و”نقد” محطة مهمة جداً، ولو حاولت التحدث عنها حتى الصباح فلن أوفيها حقها، فـ”نقد” وقتها كان لصيقاً بـ”عبد الخالق” وكنا نتبادل قصاصات من الورق فيها بعض التعليقات.. و”نقد” كان حريصاً على موضوع الاختفاء، والمناخ وقتها خلال فترة السبعينيات لم يكن ملائماً للاقتراب منه بشدة إلا لماماً، ولكن خلال فترة الثمانينيات وفترة ما بعد الانتفاضة حدث بيننا تقارب شديد، وتحدثت عن ذلك في رثائي له.

لقد كنا مجموعة خلال فترة العلن، كان “علي المك” رحمة الله عليه و”أمين مكي” و”أحمد عبد المجيد” وآخرون، كنا في أجواء حميمية، وفيها تكتشف خبايا شخصية “نقد” التي لا يتاح لك اكتشافها في العمل الرسمي، كنا نقضي أوقاتاً مع بعضنا البعض في البيت، وكنا نفكر في أشياء كثيرة، وأحسست أن “نقد” كان دقيقاً في شعر البادية والشعر العربي ومراحله المختلفة العباسي والأموي والجاهلي الخ.. وكان مهتماً بالتصوف في السودان، وكان يعد كتاباً عنه، وهذا هو الذي قربه من الأدارسة، وعرفت أن هذا القرب من الأدارسة ناتج عن علاقة قديمة وحميمة بأسرة “نقد”، وكان لـ”نقد” ولـ”عبد الخالق” اهتمام شديد ونظرة في مسألة التدين، وقد انتقلت إليّ هذه العدوى، فأصبحت شديد الاهتمام بمسألة الدين.. ومسألة الدين أوضح عند “عبد الخالق” خاصة في أسلوبه وخطاباته عندما يتحدث، فكان يربط حديثه بالقرآن والحديث، وكان يقتبس منهما كثيراً، وكان يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)، كما كان يقول: (الحق أبلج والباطل لجلج).. كانت معظم خطاباته الرسمية تشتمل على تلك المعاني.. وأذكر عندما فاز “أحمد سليمان” في دائرة الخرطوم الشمالية خطب “عبد الخالق” وقال (إن الماركسية إسلام القرن العشرين)، فكان يجد تقارباً بين تعاليم الإسلام الحقيقية وجذورها الضاربة من العدالة الاجتماعية وبين الماركسية اللينينة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية