الحوار الوطني عَبَر.. ولكن!!
التئام ثلاثة وثمانين حزباً مساء الأحد الماضي، ومن بينها الأحزاب القومية الكبرى وزعاماتها، بعد تعثر الحوار الوطني وانتظاره طويلاً (سبعين يوماً) على الأقل ليس بالأمر الهين. ذلك أن لقاء المائدة المستديرة بين الأحزاب الشمالية والجنوبية العائدة من الغابة يومئذ لتضع خريطة واتفاقاً للسلام والوفاق بين الجنوب والشمال بعد ثورة 21 أكتوبر 1964م، لم تتجاوز بضعة عشر حزباً ومؤسسة سياسية.
لكن.. ثم نكرر ولكن، من يقنع الأستاذ المهندس “عثمان ميرغني” صاحب عمود (حديث المدينة) بأن ما حدث مساء الأحد، وقد ألقى السيد الرئيس “عمر البشير” فيه بخطابه الكبير الذي خاطب كل الهموم، وتناوله بالمدح والإضافة ما لا يقل عن خمسة وعشرين متحدثاً من زعماء الأحزاب الذين كان أشهرهم الدكتور “الترابي”، والإمام “الصادق المهدي”، و”السيسي”، والدكتورة “فاطمة عبد المحمود”، و”الدقير”، وممثل الاتحادي (الأصل) وغيرهم، هو حدث يستحق الثناء والتناول بمعروف وموضوعية، كما فعل الكثيرون من رؤساء تحرير الصحف اليومية وكُتّاب الرأي والأعمدة والمحللين السياسيين؟!
لقد درج صاحب (حديث المدينة) دوماً على أن (يشاتر) ويخرج عن المألوف، إذ هو بطبعه يميل إلى ما يطفئ ظمأه وغضبه الذي بين جنبيه..!
ففي عموده صباح أمس الأول (الاثنين) بعنوان (الزمن.. يا حكم!!) زعم أن أحزاب اليسار (الشيوعي ومحسوبيه) الغائبة لا غيرها من صنع أجندة ذلك اللقاء وقراراته..! بل أكثر من ذلك يقول الكاتب: (لولا موقف الحزب الشيوعي ورفاقه) لربما مر اللقاء مضمخاً بالخطب الرنانة.. وحلو الكلام ومعسوله..!!).
الأستاذ “عثمان ميرغني” وذلك ليس بـ(حديث المدينة) وإنما حديثه هو، لأن المدينة حديثها وقد شهدت وسمعت ورأت ما جرى في قاعة الصداقة، كان غير ذلك تماماً، حيث مجدت الكثرة الغالبة اللقاء ومفرداته ومشتملاته، بل ذهب البعض إلى أن الحزب الشيوعي وحلفاءه قد تجاوزتهم الأحداث إن لم يتداركوا أنفسهم، ذلك أن العزلة باتت من نصيبهم إن لم تلحقهم رحمة الله.
ولعل ذلكم هو السبب الذي جعل الحزب عبر المتحدث الرسمي باسمه “يوسف حسين” يقول لصحيفة (المجهر) صباح الاثنين إن الحزب (رحب بخطاب الرئيس ووصفه بالإيجابي)، وأضاف إن الحزب عبر مؤسساته وتحالف قوى المعارضة سيجتمعان لإصدار رأي موحد بشأن تقييم الخطاب وإعلان الموقف النهائي منه.
هذا مغاير تماماً لما ذهب إليه الأخ “عثمان” صاحب عمود (حديث المدينة) المشهور والمقروء.. وإلا لكان المتحدث باسم الحزب قد سبق “عثمان” لما ذهب إليه، وهو أن غياب الحزب وحلفائه هو الذي صنع أجندة لقاء السيد الرئيس والقرارات التي خرج بها.. فـ”عثمان” هنا (ملك أكثر من الملك..!) وربما كان ذلك جراء ما يقال عليه (الغرض مرض).. نسأل الله لنا وله ولغيرنا السلامة..!
منذ ربع قرن أو يزيد من الزمان وهو عمر ثورة الإنقاذ الوطني، وقد أسس الحزب الشيوعي السوداني بقيادة الراحل “التجاني الطيب” والأستاذ “فاروق أبو عيسى” مع آخرين من زعماء الأحزاب والحركة الشعبية لتحرير السودان SPLM (التجمع الوطني)، وكانت له مطلوباته وقراراته الخاصة برحيل الحكم وتنازله عن سياساته ومبادئه وطموحاته.. ولكن من قال إن كل ما يتمنى المرء يدركه..؟!
لقد كان دخول الحركة الشعبية بقيادة زعيمها “جون قرنق دي مبيور” في عمليتي السلام في (مشاكوس) و(نيفاشا) مع النظام الحاكم أول ضربة غشيت الحزب واضطرته أخيراً إلى أن يدخل هو الآخر في عملية سلام نيفاشا.. يناير 2005م.
وعندما فشلت عملية سبتمبر– أيلول من العام الماضي، التي أدعى الحزب أنه (ربانها) الذي عمل لها.. وظهرت عملية التغيير والحوار الوطني وقبلها (اتفاق التعاون) مع دولة جنوب السودان بعد انفصالها عن دولة السودان، لم يجد الحزب الشيوعي وحليفه (قوى الإجماع الوطني) غير العزلة وابتعاد أقرب شريكين لهما في المعارضة عنهما وهما حزب المؤتمر الشعبي وحزب الأمة القومي، فضلاً عن أحزاب الحكومة القومية التي شاركت النظام منذ سنوات، ومن بينها الحزب الاتحادي (الأصل) بقيادة السيد “محمد عثمان الميرغني” رئيس التجمع الوطني الديمقراطي في الخارج سابقاً..!
وفي عملية الحوار الوطني الجارية الآن، التي كان أكبر وأهم لقاء لها بقيادة الرئيس “البشير” قد جرى مساء الأحد الماضي، أكبر حافز لأن يلحق الحزب الشيوعي وحلفاؤه بالركب بعد تدارس الخطوة الأخيرة ومراجعتها كما جاء في تصريحات المتحدث الرسمي باسم الحزب السيد “يوسف حسين”.. والذي ربما سبقنا الإعلان عنه ونحن ندخل في هذه (المخاشنة) الموضوعية مع الأخ الحبيب “عثمان ميرغني”..!
وفي سياق (المخاشنة) والملاومة والمراجعة يقول الأخوة المصريون، والأخ “عثمان” الذي عايشهم ودرس عندهم أدرى بهم: (أمشي عدل يحتار عدوك فيك..!).. أنا بطبيعة الحال لست بعدو الأستاذ “ميرغني” أو غيره.. غير أني لا آلو جهداً في تصحيح وتصويب ما لا بد من تصويبه أو التعليق عليه، لأن الصحافة بأعمدتها تحتمل الرأي والرأي الآخر، وإن لم يخل الأمر من (غلظة) أو مخاشنة ولكن دون أن تسيل قطرة دم أو تفوح رائحة ما ينفر.
مع ذلك، ورغم كل شيء، الحوار الوطني عبر، كما جعلنا ذلك عنواناً لـ(لمشهد السياسي) اليوم، بما اشتمل عليه خطاب السيد الرئيس من قرارات منها إطلاق الحريات (على الآخر) تقريباً وإطلاق سراح المعتقلين والمحكومين في مخالفات سياسية.. بل إن الحوار الوطني، وقد أخذ ذلك البعد، صار لا بد له من آلية أو آليات تحرك العمل في ذلك الإطار، ليصبح الحوار من بعد شأناً قومياً ووطنياً له مرجعياته.
والخطوة على كل حال كبيرة، وكان الكثيرون ينتظرونها، ومن ثم كانت الإشادة، وكان النظر إليها كحالة عبور أتت بها المرحلة، وبقي على من تأخر من الأحزاب وغيرها أن يلحق بها.. إذ كفى مماطلة ومماحكة والميل إلى صنع العقبات والمشكلات التي مضى زمانها.. فالظرف لا يقل عن ظرف الإجماع على الاستقلال في 19 ديسمبر 1955م بعد اختلاف الساحة السياسية يومئذ بين اتحاد مع مصر أو استقلال تام.
الأخ “عثمان ميرغني” صاحب عمود (حديث المدينة) ألقى بما عنده وعلى طريقته، ولكنه سيظل له رأيه وقلمه، والحكم له أو عليه لدى القارئ.. إلا أن التداخل في ما قال يظل ضرورة، إذ بضدها تتميز الأشياء.. والتحية للأستاذ “عثمان” والمدينة التي يتحدث باسمها.