رأي

الوراثة والتوريث السياسي في السودان .. عندما تخفق الكرموسومات!!

} إن المتتبع لتاريخ التوريث السياسي في رقعتنا الجغرافية، يجد تبايناً واختلافاً يزيد وينقص بين الدول التي ابتليت بمثل هذا النوع من الحكم، الذي تمتد جذوره إلى تلك الجلسة الشهيرة في عهد الدولة الإسلامية الأول، عندما جلس زعيم بني أمية “معاوية بن أبي سفيان” وحوله بطانته، ليختار من يخلفه في الحكم بعد الفتنة الكبرى التي لا نزال نظن أنها مشتعلة إلى الآن!! وهنا ينبري القائد “زياد بن أبيه” ليقول قولته المشهورة وهو يحمل سيفه:
(أمير المؤمنين هذا (وهو يشير إلى معاوية) فإن هلك.. فهذا (وهو يشير إلى يزيد بن معاوية).. ومن أبى فهذا (وهو يشير ويلوح بسيفه)!! وبعدها بايع القوم.. (ومن ديك وعيك والبيعة الياها)!!
} وحتى في زمان مملكة مروي كانت الوراثة فيها تتم من جهة الأم، وهو الشيء الذي جعل النوبيين حريصين جداً على تزويج بناتهن من أجانب أو أغراب، ولعل هذا سروهم حتى اليوم.. وفي ذلك الزمان اتبع التوريث للملك.. وأتى بملوك على قدر عالٍ من العظمة والأنفة والقوة مثل “شبكة” و”شبتاكا” و”بعانخي” و”تهراقا” الذي قاد جيشاً حكم به مصر مؤسساً الأسرة الخامسة والعشرين.. وطرد الهكسوس شر طردة، كما أنجبت مروي الملكة الأسطورية “أماني شيختو” (الكنداكة) التي هزمت أشهر أباطرة روما “أوكتافيوس أغسطس قيصر” ابن أخ الإمبراطور القتيل “يوليوس قيصر”.. وجعلته (يسف التراب) ويرجع منهزماً كسيراً ذليلاً، وهو الذي أخضع روما كلها وأخمد الفتن وهزم “مارك أنتوني” ذراع عمه اليمنى وعشيق قريبتنا السودانية “كليوباترا” ملكة مصر التي انتحرت بعد ذلك بالسم!!
} ويمضي الأمر إلى مملكة سنار والتحالف التاريخي والمثالي بين الفونج والعبدلاب الذي أجلس ملوكاً عديدين على (الككر) وألبسهم الطاقية (أم قرينات) وراثةً.. مثل “بادي أبو شلوخ” و”عجيب المانجلك” وغيرهم الذين تميزوا بقوة الشكيمة وصلابة الإرادة في تلك الفترة، وحافظوا على أقدم مملكة إسلامية بالسودان إلى أن أطاح بها الأتراك في العام 1821م.
} أما فترة المهدية، فقد شهدت بوادر ميلاد الجمهورية وإلغاء التوريث وعهود الملكية، وقد ألغى الأمام “المهدي” تقاليد التوريث حتى في الطرق الصوفية، ودعا إلى حكم المؤسسة، وذلك بمنشوره الشهير: (إنما مثلي وأهل الطرق كمثل قوم كان لهم تمد “بئر” فجاء البحر فغطاها فأنا ذلك البحر).. (انظر منشورات المهدية للعلامة الراحل البروفيسور أبو سليم).
} وعبّر الإمام “المهدي” رحمه الله عن عدم رضاه بالتوريث، بما له من نظرة فاحصة ونظر ثاقب أدرك به ضعف الصبغة الوراثية معبراً بقوله: (وأما هؤلاء فقد أهلكهم “أحمد سليمان” بالدنيا).. و”أحمد سليمان” هو وزير مالية المهدية الذي جأر بالشكوى لـ “المهدي” من مطالب أقربائه وتعويضاتهم وامتيازاتهم ودوائرهم، وهذا ما جعل مهدي الله يختار الخليفة “التعايشي”، الذي لا تربطه به صلة سوى العقيدة المهدوية والإيمان العقدي، وكان اختياراً موفقاً صمد به الخليفة بالدولة ثلاث عشرة سنة في وجه أقوى الإمبراطوريات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية في ظل انقسام داخلي وفتن.. و(حفر) من ذوي القربى.. وخيانة (عديل كده)!! على أن انتكاسة خطيرة قد حدثت في أعقاب الاستقلال وعودة الطوائف إلى الواجهة وظهور السادة وأبناء السادة وأحفادهم وهلم جرا.. وأصبح كل حزب بما لديهم فرحون.. ولكن كان للكرموسومات رأي آخر، إذ أبت أن تنقل صفات القيادة وكاريزما الحكم إلى هؤلاء وأولئك.. فأتت بأبناء منهم من صعد به ملك أبيه إلى مناصب رفيعة.. ولكن المتتبع لأخباره لا يجد له حساً ولا خبراً بخلاف: (غادر إلى القاهرة وعاد من لندن) وبعدها بأسبوع (عاد إلى الخرطوم ويغادر إلى لندن)..
} ثم كثرت في الأحزاب الطائفية الانقسامات والانسلاخات والانضمامات و(الوقفات) وأعياد الميلاد والأعراس والأفراح والليالي الملاح.. وويل وأي ويل لمن يفغر فاه مندهشاً مما يرى.. ونحن نرى من يقول لشباب مناضل طرقوا باب ذاك الحزب: (ما بنفتح.. نحن حرين.. ده حزب أبوي)!! لتندلع بعدها حروب (ده عمي) و(ده أخوي) و(ده جدي) وكأنهم بمن قال:
أغرن من الضباب على حلالٍ
وضبة إنه من حان حانا
وأحياناً على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا!!
} وحتى الطائفية العقدية الثالثة لم تنج، إذ انتهت آمال ونزعات بعض أبنائها للبيزنس، والخيل، والرياضة، والصيد، والدوبيت، والنمّ والقصيد، والمسدار، وشراب القهوة، وتربية الكلاب، والطرب، والمغنى، وبذا يكونون قد أراحوا واستراحوا، ونرجو أن تحذو حذوهم البقية!!
} ومجمل القول إن (دارون) و(مندل) و(الجينومات) و(الصبغات) بكل عواملها السائدة والمتنحية وطفراتها.. قد فشلت فشلاً ذريعاً ورسبت في امتحانات هذه البلاد وأعيتها سبيلاً، وأنجبت لنا ذراري لا يكادون يفقهون حديثاً.. وآخرين نشأوا في الحلية والديباج.. ولا يبينون في الخصام ولا حتى في السلام!! ونرجو أن يفهموا كما فهم “بن علي” و”حسني مبارك” و”القذافي”، وأن لا يكونوا كمن قال:
قال مولانا بعد أن لف العمامة
أيها الناس سلاماً وسلاما
واعلموا أن كل شيء كان حلاً
قد غدا اليوم حراما
وابشروا يا أيها الناس
فقد وليت عليكم وأبنائي
من الآن إلى يوم القيامة!!
} فيا هؤلاء متى ستخرجون أو ترحلون أو حتى تفهمون؟!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية