تجارة الأعضاء البشريَّة بالسودان .. (سماسرة) وضحايا!!
عندما ذهبت “رحاب” مرافقة زوجها – مريض الفشل الكلوي – إلى أحد المستشفيات الخرطومية الخاصة، ذائعة الصيت، تفاجأت بأحد الأطباء يعرض عليهما (قائمة أسعار) لأنواع الكلى، متوسط تكلفتها حوالي (35) ألف دولار.. على أن تتم العملية الجراحية خارج البلاد!!
هي ليست (قصة خياليّة).. بل مثال لواقع مرير، اتخذناه مدخلاً إلى هذا الملف الحساس: (الاتجار بالأعضاء البشريّة في السودان)!!
} رأس جبل الجليد!!
ربما يعتقد الكثيرون أن تجارة الأعضاء في السودان، ليست بالأمر المزعج، بحسبان أن القليل من الأخبار عن هذا الأمر تطرق آذانهم.. إلا أن ما يرشح هو (رأس جبل الجليد) الذي يخفي تحته مآسي لا أول لها ولا آخر: شبكات يديرها (سماسرة) محترفون، يبرمون صفقات (وضيعة)، يستغلون فيها حاجة الشباب الفقراء.. إذ يقنعونهم ببيع إحدى الكليتين – العضو الأكثر رواجاً – نظير مبلغ مالي، وغالباً تتم الجراحة خارج البلاد، وبعضهم (يقبض) المبلغ المتفق عليه، وآخرون (يقبضون الريح)!! وكذا الحال للمريض المشتري الذي يدفع مالاً لا يذهب (أغلبه) إلى صاحب العضو المباع.. بل إلى جيب السمسار وأعوانه!!
} ندرة الشكاوى
ورغم ندرة شكاوى ضحايا الاتجار في الأعضاء – وفقاً لعدد البلاغات لدى الإدارة العامة للمباحث الجنائية حتى لحظة إجراء هذا التحقيق، وهي لا تتجاوز ثلاثة بلاغات – إلا أن الأمر، بحسب الإدارة نفسها، يعد خطيراً ويستوجب التوقف عنده والتعامل معه بحذر، حيث أن هذه (الصفقات) لا يتم اكتشافها إلا إذا تنصل (الوسيط) وتراجع عن تسليم (البائع) ما تبقى له من ثمن ما باعه، فيلجأ الأخير إلى تدوين بلاغ، وخلاف ذلك يظل الأمر طي الكتمان!!
} قائمة أسعار الأعضاء!!
إذا نظرنا إلى (قائمة الأسعار) في سوق تجارة الأعضاء القذر.. نجد أن الكلى تتربع في الصدارة.. إذ يكثر الطلب عليها استغلالاً لحاجة المرضى الشديدة!! وحتى لا نلقي القول على عواهنه، فلننقله عن السيدة “رحاب”، التي تحدث لـ (المجهر) ناقلة مأساة زوجها.
“رحاب” رافقت زوجها مريض الفشل الكلوي إلى أحد المستشفيات الخرطومية الخاصة، ذائعة الصيت، لمقابلة أحد الأطباء، بنية الكشف ومعرفة مدى حاجة الزوج لزراعة كلى.. إلا أن الطبيب فاجأهما بـ (عرض تجاري).. وقدم إليهما (قائمة أسعار) وكانهما يجلسان في مطعم!!
تكلفة الكلى كانت (35) ألف دولار، على أن تتم عملية الزراعة خارج البلاد، وهو مبلغ ليس في متناول “رحاب” كما قالت لـ (المجهر).. إلا أن القائمة بالطبع لا تزال موجودة.. ولن يعجز ذلك (الطبيب التاجر) عن إيجاد (زبون) يستغله!!
} لا قانون!!
ورغم أن عمليات بيع الكلى تتم خارج البلاد، إلا أن هناك حالة واحدة تمت بأحد المستشفيات الخاصة بالخرطوم، ورفض مدير دائرة مكافحة الجريمة المنظمة والمستحدثة العميد شرطة “عمر حبيب” الإفصاح عنها، مؤكداً أن البيع والاتجار بالأعضاء يعد من الجرائم المستحدثة في السودان، ويصنف – بحسب دائرتهم – على أنه من جرائم الاتجار بالبشر، مؤكداً في حديثه لـ (المجهر) أن الدافع الرئيسي لهذه الجريمة هو الحاجة إلى المال، لذا تستهدف الشبكة الشرائح الضعيفة، خاصة النساء. وأضاف: هذه الجريمة في اضطراد، ومن جانبنا نسعى للحد منها، والمشكلة أنها تتم برضاء تام من (البائع)، الذي نتعامل معه على أنه مجني عليه دفعه الجهل والفقر إلى المصيدة. واستطرد “حبيب”: البلاغات المدونة لدينا الآن حوالى ثلاثة، وقد تم القبض على بعض المتهمين، وهناك بلاغات قيد النظر في المحاكم ولم يتم الفصل فيها بعد، لأن المتهمين الأصليين خارج البلاد.
وتجارة الاعضاء – بحسب العميد شرطة “عمر حبيب” – لا يوجد قانون تندرج تحت طائلته، وجميع البلاغات التي تم فتحها بهذا الخصوص تحول لهم من باب (قانون نزع الأعضاء البشرية)، وهو قانون قديم وأحكامه ضعيفة، والجريمة تدرج تحت (مادة الأذى) بعد إجراء الكشف الطبي للشاكي وفحص الجواز ومطابقة أقواله، ومن ثم القيام بالإجراءات اللازمة واستدعاء الأطراف. وأضاف “حبيب”: لا بد من سن قانون يعاقب على تجارة الأعضاء، سيما وأن هناك شبكة منظمة يمارس أفرادها عملهم بإتقان، مستهدفين الشرائح الضعيفة.. وبحسب البلاغات الواردة لدينا فإنهم يتفقون مع الضحايا على مبلغ (10) آلاف دولار، وبعد العملية (يتنصلون)، لذلك – والحديث للعميد “عمر” – لا بد من إرشادات توعوية حتى لا يستمع البسطاء للإغراءات المدمرة لصحتهم، ويتجنبوا (السماسرة).
} بين الموتى والأحياء!!
وفي الوقت الذي يرفض فيه الكثيرون من السودانيين التبرع بأعضاء أحد الأقارب عقب وفاته، يقول اختصاصي الطب الشرعي نائب مدير مشرحة الخرطوم “د. صابر مكي” إنه لم تتم حتى الآن عمليات نقل أعضاء من الموتى إلى الأحياء في السودان، مؤكداً أن (الحياة الجزئية) – وهي الفترة ما بين الوفاة الجزئية والموت السريري – تعتبر الأهم لنقل الأعضاء، خاصة أن هناك بعض الأعضاء تموت تدريجياً، بخلاف الدماغ والقلب والرئتين، وقرنية العين باستطاعتها البقاء صالحة لمدة أربع وعشرين ساعة من وفاة الشخص.
} الجهل بالقانون
وبحسب المحامي وموثق العقود الأستاذ “علي عمر أبو المعالي”، فإن الجهل بالقانون ليس عذراً للمواطن في أن لا يرتقي بفهمه وإدراكه بحقوقه، والشخص (الواهب) لا بد أن يكون مدركاً لهذه الهبة المعينة التي يريد التبرع بها من جسده، شريطة أن لا تكون بمقابل مادي، كما يشترط أن لا يكون هناك بديل لمريض الكلى إلا الزراعة، مضيفاً أن زراعة الأعضاء والأنسجة يحكمها (قانون زراعة الأعضاء) وهو قانون يميز بين الشخص المتوفى والحي، إذ يشترط على الأول كتابة إقرار بموافقته على نزع أحد أعضائه – قبل وفاته – والتبرع بها لأية مؤسسة صحية أو تعليمية، وفي حال كان المتوفى مجهول الهوية ولا توجد شبهة جنائية، فإن الأمر يترك للجهات المختصة للتصرف.
} شروط قانونية
وحتى تكون عمليات نقل وزراعة الكلى مستوفية لشروطها القانونية – بحسب المحامي “أبو المعالي” – فلا بد للمؤسسات الصحية، التي تجري فيها هذه العمليات، من توفير الخدمات الطبية اللازمة قبل وبعد إجراء الجراحة، ولعل هذا شرط آخر يضاف إلى شرط بلوغ وسلامة عقل الشخص (الواهب) الذي يتوجب أن يكون قد بلغ الثامنة عشر من عمره، وخلاف ذلك – يقول “ابو المعالي” – فإن جميع المشاركين يصبحون طرفاً في الجريمة (المتبرع والمتبرع له والمستشفى التي أُجريت بها العملية)، وتتمثل العقوبة في السجن أو الغرامة أو الاثنين معاً.
} حلال وحرام!!
استناداً للآية الكريمة (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ابتدر الشيخ “محمد هاشم الحكيم” حديثه لـ (لمجهر)، مشيراً إلى أن إعانة المريض و(التبرع) له بالأعضاء يندرج في قول الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم)، شريطة أن تكون المصلحة المتوقعة للمتلقي أكبر من المفسدة المؤكدة على المتبرع، أي بطريقة لا تجعل الشخص يحيي إنساناً ويهلك نفسه. مضيفاً أن العلماء قاموا بتحريم بيع الأعضاء لوجود الضرر، لأن عضو الإنسان الممنوح من الله لا يمكن أن يصبح بضاعة في سوق النخاسة – على حد قوله.
} أعضاء يحرم التبرع بها
وأضاف “الحكيم”: بالنسبة للمشتري فإن الأمر متروك له من باب الضرورة، فإذا لم يجد متبرعاً واضطر إلى دفع تعويض مادي للمتبرع خشية الهلاك، فإن الضرورات تقدر بقدرها وتبيح المحظورات، والإثم يقع على البائع. وإن كان البائع مضطراً للبيع، ولكن الضرر المترتب على فقدان عضو – كـ (الكلية) مثلاً – أكبر من منفعته المادية، فإن الأمر يدخل في حرمة التبرع بالأعضاء.
واكد “هاشم” أن هناك أعضاء يحرم التبرع بها، مثل القلب والمبايض والأرحام والحيوانات المنوية والخصية، وذلك لما فيه من اختلاط للأنساب، فيما يجوز التبرع بجزء من الكبد والدم والنخاع وقرنية العين من الأحياء للأحياء. واستدرك “هاشم”: لكن لا يوجد حرج في التبرع بالأعضاء بعد الموت، شريطة موافقة ذوي المتوفى.
ودعا الشيخ “الحكيم” إلى طرح نقاش مع المحكومين بالإعدام، ويمكن أن يتم تنفيذ الحكم داخل غرفة العمليات الجراحية، نظير التبرع بأعضائهم، لما في الأمر من مصلحة عامة، بشرط موافقة ذوي المحكومين وأولياء الدم، حتى يستفيد مرضى من هذه الأعضاء.