الموت الدماغي .. جدل طبي وشرعي!!
بينما كان “بن جميع” وهو من علماء الطب في القرن الرابع عشر، جالسا في سوق القناديل بالفسطاط مرت به جنازة رجل ، فما كان منه إلا وأن هب واقفاً وطلب من المشيعين التوقف بالجنازة وعدم دفنها لأن الرجل ليس ميتاً، ولمكانة “ابن جميع ” الطبية اقتنع أهل المتوفى بذلك فأجرى له عملية إنعاش بالماء البارد والساخن وعليه استرد الرجل وعيه وعاد إلى الحياة وعاش سنوات طويلة. وبسؤال الطبيب عن إلمامه وإدراكه بأن الرجل ليس ميتاً؟ أجاب بأن وضع أرجل الرجل لم تكن منبسطة تماماً كما يحدث في حالات الوفاة الطبيعية.
لعل هذه القصة تشي بأن حالات الغيبوبة الطويلة التي اصطلح عليها علمياً بـ”الموت الدماغي” قديمة عايشها وابتلي بها السلف على مر القرون، وقد اتفق العلم على مسبباتها وربما استطباباتها رغم التضارب، لكن اختلف عليها فقهياً.
} ما هو الموت الدماغي؟
سؤالنا المفتاحي عن تعريف الموت الدماغي وضعته (المجهر) أمام المدير الطبي لمشرحة الخرطوم الدكتور “صابر مكي” فقال مجيباً: يُعرّف الموت الدماغي علمياً بأنه موت جذع المخ (المكون من الدماغ الأوسط والجسر والنخاع المستطيل)، وهو المركز المسؤول عن التنفس وضخ الدم. والجزء الخلفي من المخ إذا حدث فيه خراب – (غير مرجوع) – بسبب خلل، تكون الدورة الدموية غير فعالة، الأمر الذي يؤدي إلى وفاة جذع المخ، وعليه فلا حرج من سحب مساعدة أجهزة عن المصاب. أما الأسباب والشروط التي بموجبها يتم تشخيص الموت الدماغي فهي: أن يكون المريض في غيبوبة عميقة ولا يستطيع التنفس إلا عبر جهاز التنفس الصناعى.. وأن يكون سبب الغيبوبة معروف علمياً.
وعن أسباب الموت الدماغي يقول د. “صابر”: أبرزها تلك المتعلقة بأمراض السكر أو الإصابة بأمراض معينة مثل الكبد والكلى، أو الشوارد في الجسم، كالكالسيوم أو البوتاسيوم، أو ظهور شوارد في الدم.. وهنالك بعض حالات الموت الدماغي يمكن علاجها، مثل التي ترتبط بهبوط أو ارتفاع درجات الحرارة التي تتسبب في حدوث مشاكل بالدماغ، وزيادة الضغط داخل الجمجمة.. فالهبوط الحاد في حرارة الجسم يدخل المريض في حالة مشابهة تماماً لحالة الوفاة.
} كيفية التشخيص وإعلان الوفاة
ويضيف د.”مكي”: تشخيص الوفاة الدماغية يتطلب إصدار تقرير من قبل ثلاثة متخصين في: المخ والأعصاب، التخدير، والعناية المكثفة، “إضافة إلى الطبيب المتابع للحالة. ويفترض إعادة التشخيص مرتين أو ثلاث مرات خلال اليوم الواحد، وعند التأكد من أن الوفاة دماغية لا بأس من سحب الدعم عن المريض وإعلان الوفاة.
} الحياة المعلقة!!
وطفق د. “صابر” يوضح بعض الحالات التي تشابه إلى حد بعيد الموت الدماغي، ومنها ما يعرف طبياً بـ (الحياة المعلقة)، وهي تحدث عند هبوط الحرارة الشديد، إذ يعلق الدماغ وظائفه الأساسية. والحالة الثانية هي ما يعرف طبياً بـ (الانغلاق الداخلي)، وهنا تكون الإصابة في منطقة الجسر، وهي – أي المنطقة – بمثابة المضخة المغذية للدماغ. وهناك حالة أخرى تعرف بـ (استمرارية الحالة الخدرية)، وينتج عنها إصابة وخراب واسع في القشرة الدماغية، وفقدان القدرة على الإدراك والإرادة، فالمريض يمكنه الضحك والبكاء والأكل والشرب بدون إدراك، ما يدفعه للاعتماد على الآخرين، وقد أصيب أحد أبرز العلماء السودانيين بهذه الحالة قبيل وفاته منذ عدة أعوام. و(60%) من حالات الموت الدماغي مرتبطة بالحوادث المرورية – على حد قول د. “مكي”.
} جدل وخلاف فقهي
(الموت الدماغي) صاحبه جدل فقهي واسع، ولا توجد في السودان فتوى واضحة تقطع في أمره. وكان رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدكتور “عصام أحمد الشيخ” قد تحدث في ندوة عن (الموت الدماغي بين الفقه والطب) وطالب بإخضاع الموضوع لمزيد من المراجعة والنقاش، وعدم الخلط بين الغيبوبة الطويلة والنهائية والغيبوبة المؤقتة. بينما مضت بعض الدول العربية إلى استصدار فتاوى جازمة حوله، منها الكويت التي أصدرت أول فتوى دينية في العام 1979م، جوّزت فصل الأجهزة الطبية عن المريض إذا اتفق الأطباء على أنه متوفى دماغياً، وكذا فعلت السعودية والإمارات.
} زراعة الأعضاء
وذهب بعض علماء الفقه والدين، وعلى رأسهم “القرضاوي”، إلى جواز التبرع بالأعضاء في حالة الموت الدماغي. فيما أكد استشاري زراعة الأعضاء بالمملكة العربية السعودية الدكتور “حسين حياتي” أن الدماغ أول الأعضاء توقفاً ولا يستطيع البقاء حياً لأكثر من أربعة دقائق، أما القلب فيمكن إخراجه أسوة بعمليات القلب المفتوح – خلال أربعة أو خمس ساعات – ما دامت هنالك تروية للدماغ.
وفي حالة وفاة المريض دماغياً – بحسب علماء الفقه – يمكن زراعة أعضائه لمريض آخر. والأعضاء التي يمكن نقلها تفيد أكثر من (12) مريضاً، ومنها: القلب، الجلد، القرنية، والكبد، لكن يجب نقلها في فترة لا تتجاوز (16) ساعة من رفع الأجزة المساعدة عن الميت دماغياً، فيما نجد أن الكليتين لا تتحملان سوى (72) ساعة، وكذا والرئة والعظام.
} أغرب الحالات!!
وقد وردت في بعض المصادر عدد من الحالات الغريبة المصاحبة للموت الدماغي، منها ولادة طفل في دولة “المجر” من أم متوفاة دماغياً، بسبب إصابتها بنزيف نتيجة تعرضها لحادث مروري، وكانت في الأسبوع الخامس عشر من الحمل عند إصابتها، وتمت توليدها في الأسبوع السابع والعشرين من الحمل، وخرج الطفل بصحة جيدة!! ولعل هذه الحالة تدعم من يذهبون إلى أن الموت الدماغي لا تعني موت الأعضاء كلياً.
وهناك حالة أخرى لمريضة سودانية، أعلن الأطباء – في مستشفى خاص وشهير بأم درمان – عن موتها، واستخرجت لها شهادة وفاة، وشرعت أسرتها في نقل الجثمان إلى المنزل لغسله وتكفينه توطئة لدفنه، لكن ما حدث جعل القشعريرة تسري في أبدان النساء اللاتي كن يغسلنها، إذ تفاجأن بتحريك المرأة أصابع يدها!! وبين مصدق ومكذب ومذهول قامت الأسرة بإرجاع المرأة (المتوفاة الحية) إلى المستشفى مرة أخرى، فاكتشف الأطباء إنها لم تتوفَّ لكنها في غيبوبة طويلة!!
} وقصص من التاريخ!!
وقضية الموت الدماغي ليست حديثة عهد، فمصادر التاريخ الإسلامي القديم زاخرة بعدد من القصص والحالات المرضية للموت الدماغي، أو لما يشابهه، ومنها تلك الحالة التي عالجها “صالح بن بهلة”، وهو طبيب من أصل هندي، كان يمارس مهنته بالعراق خلال عهد “هارون الرشيد”.. فعندما مرض “إبراهيم بن صالح” – وهو ابن عم “الرشيد” – اشتبه الناس في وفاته، لكن الطبيب الهندي كان متيقناً من أنه لم يتوفَّ، وعمد لإعداد مجموعة من الخلطات والأعشاب الطبيعية، وبالفعل استجاب المريض للوصفة بعد تناولها.
} غيبوبة دقيقة
وعاد المدير الطبي لمشرحة الخرطوم الدكتور “صابر مكي” معلقاً على حالات الموت الدماغي وما يشابهها، وقال: إن الدول المتقدمة – كأمريكا والمجر مثلاً – تولي مرضى العناية المكثفة والغيبوبات رعاية خاصة، والمرأة التي أنجبت – وهي في حالة موت دماغي – ربما أوصى الأطباء بعدم فصل الأجهزة الطبية وجهاز التنفس الصناعي عنها، للمحافظة على الجنين، وفي هذه الحالة تعمل الأجهزة على ضح الدماء للدماغ وترويته، ريثما يحين وقت الولادة، ثم تفصل الأجهزة لاستحالة شفاء المريضة، أو ربما اختلف تشخيص الحالة فكانت المريضة في (غيبوبة دقيقة) دون أن تتعطل أجهزة المخ بالكامل.. وهذه الحالة ليست ببعيدة عن حالة رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي “شارون” الذي أصيب بجلطة في الدماغ أدخلته في ما يسمى علمياً (استمرارية الحالة الخدرية) التي لازمته لقرابة ثمانية أعوام.
وأضاف “مكي”: لم يكن الطب سابقاً متطوراً كما الآن، إذ كان تشخيص الحالات المعقدة يبنى على الملاحظات المكتسبة من تراكم الخبرات العلمية والعملية.
وسألنا د. “صابر” إن كان قد تم تسجيل حالات (غيبوبة طويلة) في المستشفيات السودانية، أسوة بدول العالم الخارجي، فرد قائلاً: الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسات والإحصاءات والمتابعة للعناية المكثفة بالمستشفيات.