تقارير

رحلة في أعماق مدينة «أبو كرشولا» والنهوض من رماد الحرب والمعارك !!

{ ما أن يطل جبل (الدائر) حتى تتداعى صور تاريخية عن معارك المهدية وسلطنة تقلي و»آدم أم دبالو» و»حماد أبو حجلة».. ومآثر رجال حافظوا على تقاليد مجتمعية وإرث في قبول السودانيين لبعضهم في الزمان الغابر، حتى ضاقت الأرض بما رحبت وتقيأ الجبل دماً وولدت الصخرة أفعى ونحرت الحرب في عظم المجتمع. هبطنا في مدينة أم روابة في الساعة الثانية والنصف صباحاً، وكان هناك من يستقبل ضيف الساعات الأولى من الصباح.. لا ضيف الهجوع ولا ضيف (كَر وضيف جر) .. بحفاوة أبناء كردفان. كان الفتى المجاهد «علم الدين» وهو يحملنا على شرب القهوة أو الشاي قبل أن نأوي لفراش.. هفونا إليه بعد رحلة رهق بدد متاعبها السائق «عبد الرحمن أبو طالب»، وهو يغالب النوم من الساعة التاسعة مساءً لحظة وداعنا لجبل أولياء.. والطريق الطويل.. موحش وذكريات الموت الذي حصد الأصدقاء بغتة تداهمنا، والأخ الصديق «محمد آدم سراغة» الضابط الإداري والسياسي الناشط في حزب المؤتمر الوطني والزميل «التجاني السيد».
في مدينة «الرهد» التي تأوي وحدها (11) ألفاً من نازحي «أبو كرشولا» و(جبل أبو الحسن) و»أم بركة»، كانت نسمات الفجر تنفحنا بعطر كردفان ورحيقها وأحزانها التي لا تنقضي أيامها.. ونحن على بعد (70) كلم من «أبو كرشولا» وما أدراك ما هي.. مدينة سكنها الخوف وأقام فيها الموت مسكناً ومورداً.. مدينة شهدت أبشع التصفيات الجسدية والانتهاكات للحرمات حينما هاجم التمرد العام الماضي بلدة «أبو كرشولا».. وخلف من ورائه فتنة يستعصى حلها في القريب العاجل.
الطريق إلى «أبو كرشولا» من «الرهد أبو دكنة» يمر على حافة جبل الدائر(الما بنطلع لي زول)، وعند منطقة (سدرة) و(الرحمانية) اتخذت القوات المسلحة لنفسها بواباتٍ سميكة لصد أي عدون منتظر ومتوقع. وجبال (أبو الحسن) و(تومي) وسلسلة جبال رشاد لا تتعدى سوى كيلو مترات.. وهناك اتخذ التمرد لنفسه قاعدة عسكرية قبل أن تجتاحها القوات المسلحة في معركة ظل دخانها يتصاعد منذ نوفمبر وحتى اليوم، استطاعت خلالها القوات المسلحة السيطرة على 90(%) من الأراضي والجبال الشامخات، وتخوض هذه الأيام القوات المسلحة المعركة الأخيرة مع التمرد.
} «أبو كرشولا» وصورتان
في خضم الحملة الانتخابية لاختيار والي جنوب كردفان.. هبطنا في مدينة أبو كرشولا بطائرة مروحية.. يقود الوفد الذي يمثل المؤتمر الوطني مولانا «أحمد إبراهيم الطاهر».. المدينة التي تمثل أعلى كثافة سكانية في شرق كردفان منقسمة سياسياً ومصطفة إثنياً. قبائل تقوى ورشاد نجحت الحركة الشعبية في استمالتها لصفها، وقبائل البرنو والبرقو والفلاتة الوافدين على المنطقة منذ خمسين عاماً عقيدتهم الإسلام ومذهبهم المالكي وطريقتهم التجانية، ولكنهم رفعوا شعارات الحركة الشعبية لأسباب داخلية بعد أن كانوا طوال سنوات حرب 1984-2005م إلى صف الحكومة يقاتلون عن شعاراتها ويدافعون.. مثلهم وقبائل تلقى الذين نصروا المهدية ونصروا الإنقاذ، ولكنهم الآن في صف الحركة الشعبية إلا قليل من القيادات بلا قواعد وهم كالجنرالات بلا جنود.!!
كانت قبائل الحوازمة والوافدين على المنطقة من التجار الشماليين وأبناء بحر أبيض قد اختاروا المؤتمر الوطني.. بل قيادات أحزاب مثل الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي قررت الوقوف إلى صف المؤتمر الوطني تمايزاً عن موقف قيادات تلك الأحزاب المركزية. وكانت تلك الحقبة على مقدمة لما حاق بمنطقة «أبو كرشولا» بعد ذلك من إحن وموت وحصاد أرواح مفزع.. وفي تلك الرحلة (تخلف) عن ركب مولانا «الطاهر» الدكتور «حبيب مختوم» لرأب الصدع المجتمعي وإعادة لحمة المدينة المنقسمة على نفسها. وأفلح «مختوم» في استمالة قبائل البرنو والبرقو للتصويت لـ«أحمد هارون» بعيداً عن المؤتمر الوطني.. اعتبروه حزباً يعبر عن هوية عربية إسلامية.. ونحت «عبد العزيز الحلو» في عظم المجتمع من خلال خطاب سياسي أقرب للتحريضي الطبقي.. أشعل نار الفتنة في مدينة عرفت في تاريخها بتلاقح المجتمعات وتبادل المصالح. أصبح البرنو والقبائل الوافدة من غرب أفريقيا جزءاً من إمارة الحوازمة صاحبة الأرض، والحوازمة جزء من تقلي المملكة التي جمعت العرب والعجم، ووحدت الأعراق في كنف مملكة إسلامية ضربت جذورها أعماق التاريخ.
عندما عبرت بنا السيارة وادي «أبو كرشولا».. لاح وجه المدينة مغبراً شاحباً.. بيوت يسكنها الخوف وآثار المعركة العسكرية التي دارت في المدينة تجسدها ثقوب الرصاص على جدران البيوت المهجورة.. وآثار رماد المعركة.. باقياً.. شوارع مظلمة وبيوت موحشة.. السوق الذي كان ينبض بالحياة والتجارة المزدهرة… اللواري التي تقف في السوق محملة بالبضائع استبدلت بسيارات اللاندكروزر المحملة بالمدافع الثقيلة، وجنود القوات المسلحة في كل الطرقات. طلمبة الوقود التي كانت تغذي السيارات بالجازولين وتلبي حاجة الجرارات الزراعية.. يستظل بظلها حمار أصيب بالجرب وبات غير قادر على السير، الوجوه الحسناء التي كانت تلهم الشعراء بجمالها قد أصبحت رقماً في حسابات مفوضية العون الإنساني. حسان «أبو كرشولا» أصبحن يصنعن الشاي في طرقات المدن اللئيمة.. ونساء المدينة اللائي كنا يفاخرن بـ»أبو كرشولا» (البطمة أم كيعان) دار الزمان عليهن وانقلبت السعادة لبؤس وشقاء. وهن اليوم نازحات في أصقاع المدن وقرى شمال كردفان، يأخذهن الحنين لمراتع الصبا وقد أعجزهم العودة لتلك الديار وهم ينشدون:
قد عجزنا من شكا العجز منا
وبكينا على «أبو كرشولا» حتى ازدرانا البكاء
وركعنا لأقدارنا حتى اشمأز الركوع
ورجوعنا في استغاثة الرجاء..
} العودة لوطن البنضورا!!
واقع «أبو كرشولا» اليوم مدينة استردتها القوات المسلحة وهي كالمريض الذي شفي وعجز عن النهوض من فراشه، أغلبية سكان المدينة نازحون.. بيوت سكنها عشب الخريف وبيوت عامرة بأهلها، متاجر نهبت ونزعت حتى أبوابها ومتاجر لم يمسها التمرد .. أسر تعرضت للتصفية كالشهيد (العالم التيمس) القيادي الأنصاري الذي لم يصلِ عليه إمام الأنصار صلاة الغائب حفاظاً على علاقة حزب الأمة بالجبهة الثورية. وأسر في «أبو كرشولا» كانت تصنع الطعام وتزغرد نساؤها لفظائع التمرد.!!
والي جنوب كردفان المهندس «آدم الفكي» اختار إصدار حزمة قرارات قبل زيارة المدينة.. أولى القرارات توصية لرئيس الجمهورية بالموافقة على ترفيع «أبو كرشولا» من إدارية تتبع لمحلية الرشاد إلى محلية عاصمتها «أبو كرشولا» وتضم أم بريمبيطة.. جبل أبو الحسن.. القرشة الهبايل أم بركة.. عرديبة .. واختار لقياداتها شخصية سياسية متفقاً عليها رئيس اتحاد مزارعي السودان السابق «غريق كمبال آدم». ولكن هل يعود النازحون لـ»أبو كرشولا» قبل حلول الخريف القادم.؟؟
وصل «الفكي» صباح (الأربعاء) على متن طائرة مروحية عسكرية واستقبلته المدينة بأقل من نصف سكانها، القيادات السياسية تقاطرت من الأبيض والرهد وأم روابة وأم برمبيطة، فيما لم يبد بعض السكان الذين كانوا بالمدينة اهتماماً بالزيارة وانصرف بعضهم لمزارعهم.. وآخرون في السوق ترتعد أوصالهم خوفاً من ماضيهم مع الحركة الشعبية ودورهم في الأحداث الدامية التي شهدتها المدينة، لكن أمير إمارة الحوازمة «النور الطاهر» صعد لمنصة الخطابة متوكئاً على عصاه وداعياً لطي صفحة الأمس، والعفو عن الذين وضعوا الأيادي مع التمرد.. وقال نقبل على أهلنا من أجل المصالحة والعودة للماضي لا فرق بين مواطن وآخر.. ونبذ الفرقة والشتات وندعو من كان في صف الحركة الشعبية ليضع يده مع أبناء منطقته بعيداً عن أجندات لن تخدم إنسان «أبو كرشولا».
وضع آدم «الفكي» والي جنوب كردفان (5) مليارات جنيه من حكومته في حساب تنمية وتعمير «أبو كرشولا»، يحدد أولويات صرفها قيادات المنطقة ومعتمدها «غريق كمبال»، وأضاف لتبرعه السخي توجيهات بعودة التيار الكهربائي للمدينة في غضون أسبوع واحد، ورفع الحظر المفروض على خدمة الهاتف السيار خلال أسبوعين فقط وبدء العودة الطوعية فوراً، وتوجيه وزير المياه والتخطيط العمراني لصيانة مرافق المياه في المدينة وقيام نفير شعبي لنظافة «أبو كرشولا» من الذخائر الفارغة.. وتأهيل السوق.. والشروع في بناء قيادة للجيش والشرطة وجهاز الأمن ودعوة النائب الأول للرئيس الفريق «بكري حسن صالح» لزيارة «أبو كرشولا» في شهر مايو القادم، لافتتاح المنشآت التي سيبدأ العمل فيها في غضون أيام. وعودة الحياة الطبيعية للمدينة ومن ثم إعادة الحياة للمناطق التي تم تحريرها هذا الصيف من التمرد.
ويقول مفوض العون الإنساني بولاية جنوب كردفان «هارون محمد عبد الله» في حديث خاص لـ(المجهر)، عن حجم النازحين وأين هم الآن وكيف يعودون إلى «أبو كرشولا»؟.
يقول «هارون»: من الصعب تحديد بصفة قاطعة عدد النازحين، لكن الأرقام المسجلة لدى مفوضية العون الإنساني (32) ألفاً معظمهم في ولاية شمال كردفان .. بعضهم اتجه للخرطوم والجزيرة والبعض الآخر في داخل جنوب كردفان.. عدد الطلاب النازحين الذين تم قبولهم بمدارس شمال كردفان (9) آلاف طالب، وهناك فاقد كبير من الطلاب لا نعرف أين هم الآن. ستواجه العودة الطوعية عقبات أولها أن كثيراً من الأسر على ارتباط بالعام الدراسي الذي ينتهي في شهر مارس القادم في جميع أنحاء السودان، ولابد من أن نبدأ العودة الطوعية بعد انتهاء العام الدراسي. وعن مدى إمكانيات المفوضية لترحيل العائدين.. قال «هارون محمد عبد الله» إن المفوضية تملك الإمكانيات المادية من سيارات وغيرها.. ولا تتوقع المفوضية مساهمة من المجتمع الدولي ولا المنظمات الطوعية الأجنبية في حملة إعادة التوطين المرتقب تنفيذها.. وذلك لأن المنظمات الأجنبية لا تعمل حالياً في جنوب كردفان وغير مسموح لها بأنشطة هنا، لكنه توقع أن تساهم المنظمات الوطنية في حملة إعادة التوطين.
} «الزبير بشير» والهلال في «أبو كرشولا»
عندما خاطب «آدم الفكي» والي جنوب كردفان مواطني «أبو كرشولا»، حثهم على أن يتذكروا الدور الذي لعبه البروفيسور «الزبير بشير طه» والي الجزيرة وهو يحمل سلاحه ويخوض مع المجاهدين معركة تحرير المدينة من قبضة التمرد. ولا يذكر اسم «الزبير بشير» وإلا تتعالى الهتافات الصادقة من حناجر الرجال، وتشق صخب المكان زغاريد الحسان. وقال «بشير حماد» القيادي في المؤتمر الوطني وأحد رموز حزب البعث العربي الاشتراكي سابقاً: إن المجاهد «الزبير بشير» سيتم تكريمه في «أبو كرشولا» وتكريم القوات المسلحة في شهر مايو القادم، حينما تحتفل المحلية بعودة النازحين.
وشكل نادي الهلال السوداني لكرة القدم حضوراً في مشهد «أبو كرشولا» بإعلان المهندس «الحاج عطا المنان إدريس» دعم النشاط الرياضي بـ»أبو كرشولا» من نادي الهلال، بمعدات رياضية عبارة عن أطقم فنائل وعدد (100) كرة قدم لإحياء الميادين الرياضية. وأعلن عن قيام مباراة طرفها الهلال وأي فريق آخر وليته كان المريخ، ليثبت القطاع الرياضي أنه في قلب معركة التعمير وإعادة التوطين. وأثنى «غريق كمبال» معتمد محلية «أبو كرشولا» على موقف رئيس نادي الهلال.
من المؤكد أن «أبو كرشولا» بعد تحريرها تخوض معركة تعمير وتمد يدها لولايات السودان للمساهمة في تعميرها، إلا أن عودة النازحين والفارين من قرى المحلية مسألة مواجهة بصعوبات بالغة، نظراً لما تعانيه حكومة الولاية من شح شديد في الإيرادات المالية بعد أن توقفت معظم المشاريع الإنتاجية، وتعرضت مناطق الزراعة لهجمات التمرد خلال فصل الخريف مما أخرج جنوب كردفان من دائرة الإنتاج مثل ولايات دارفور، كما أن انسياب الدعم الحكومي المركزي شحيح جداً، وبدأت أصوات تتهم المركز علناً بالقبض على المال والإحجام عن دعم ولاية هو ما تسبب في نشوب حربها الحالية، حيث يعتقد على نطاق واسع في جنوب كردفان أن الولاية التي تولى «آدم الفكي» منذ ستة أشهر إدارتها قد كف المركز عن دعمه، مما يجعل تجربته تمشي على حافة الهاوية. ويقول «عثمان كافي» أحد قيادات المؤتمر الوطني: إن الحكومة المركزية كلما تولى أحد أبناء جنوب كردفان منصب الوالي، كفت عن دعمه حتى يبدو أبناء الولاية غير قادرين على إدارة ولايتهم، وبالتالي يعين المركز وصياً عليهم وليس والياً.
إلا أن الوالي «آدم الفكي» ينفي إحجام المركز عن دعم حكومته، وقال إن الرئيس «عمر البشير» والنائب الأول تعهدا بقيام صندوق تنمية الولاية وحل قضية الديون العالقة خلال ميزانية العام الجاري.
ولكن حكومة «آدم الفكي» تواجه مصاعب جمة لإعادة تأهيل وتعمير المناطق التي حررتها القوات المسلحة في حملة الصيف الحالية، وهي المهمة التي تبدأ من «أبو كرشولا» أكثر المناطق كثافة سكانية وشقاءً بالتمرد وآثاره المدمرة.!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية