هل تعود الخدمة المدنية لسيرتها الأولى؟!
يتحسر الناس على الخدمة المدنية وترديها وضياع هيبتها بسبب التمكين وفصل أفضل العناصر التي كانت مضرب المثل للسودان وأهله من حيث الانضباط والمهنية العالية، إذ أن الخدمة المدنية في وقت مضى كانت لا تعرف الولاء الطائفي ولا العقدي ولا القبيلة، فولوج الخدمة المدنية كان بالشهادات ولذلك كانت لنا أفضل العناصر في كل مؤسسات الدولة، بل كانت الدولة تبعث أفضلهم للحصول على الدرجات الرفيعة من (إنجلترا) و(أمريكا) وغيرهما من البلدان التي تؤهل منسوبي الدول الأخرى، ففي مجال الحسابات كان لنا أفضل المحاسبين، وفي مجال الهندسة كان المهندس السوداني أكفأ المهندسين وكذلك الأطباء، وعندما بدأت الهجرة إلى دول الخليج خلال فترة السبعينيات وجدت تلك الدول عناصر جاهزة في المجالات كافة حتى في مجال البناء كان لدينا بناءين مهرة استفاد الخليج منهم في بناء نهضته وإعماره، حتى في مجال القوات المسلحة كانت الشقيقة مصر تستعين بالضباط والجنود السودانيين في حروبها مع العدو، وأذكر أن إحدى نساء مصر حينما رأت الجندي السوداني مليء بالانضباط والحيوية قالت قولتها التي سمعها عدد كبير من السودانيين (والله يا “جعفر نميري” العسكري عندك أفضل من ضابط عندنا لأن الضباط والجنود السودانيين كانوا مدلعين تحفظ لهم مكانتهم وقيمتهم المادية والأدبية).. فالخدمة المدنية أصابها التردي خلال الفترة الماضية، ولذلك فإن حديث رئيس الجمهورية “عمر البشير” بأن عهد التمكين والتسييس قد انتهى في الخدمة المدنية، فهذا حديث حسن ويجب أن تعمل به كل الجهات حتى تعود للخدمة المدنية مكانتها السامية والرفيعة، وأن يتساوى أبناء السودان في الوظائف بدلاً عن الولاء الذي أضاع البلاد ومكن أشخاص ليست لهم خبرة ولا معرفة وليس هم الأفضل بين أقرانهم من أبناء الشعب السوداني، وهذا التمكين والتسييس أضاع على الدولة أفضل العناصر التي تخطفتها الدول الأخرى، بينما الآخرون هجروا البلاد واختاروا اللجوء السياسي في دول لم يكن السوداني في حاجة للاغتراب فيها مثل (كندا) و(أسبانيا) و(هولندا) و(ألمانيا)، بل هاجر أبناء السودان إلى كل أصقاع الدنيا والسبب هذا التمييز الطائفي والعنصري والقبلي، ولو أبقت الإنقاذ منذ مجيئها للسلطة في العام 1989م على وضع الموظفين في أماكنهم لما شهدت الخدمة المدنية هذا التردي، والذين حلوا في أماكن الذين تم الاستغناء عنهم بدون أي سبب لم يجدوا من يعلمهم الصنعة، والذين غادروا أماكنهم كانوا من اكتسبوا الخبرة والتجربة من عناصر سبقتهم بعشرات السنين.
لذا تردت الخدمة المدنية بسبب نقص التجربة والمعرفة، فأصبح القادمون الجدد بلا تجارب ولا خبرة، فظلوا يتخبطون مما أفقد الخدمة المدنية حيويتها وظهر الفساد في كل شيء وظهرت الرشوة، وأصبح كل عمل لا يتم إلا بالرشوة وانعدم الواعظ الضميري لدى بعض الموظفين، وأصبح الكل يسعى لجمع المال والثروة من حيث أن الموظفين في العهود السابقة كانوا يحالون للمعاش وهم طاهرو السيرة والسريرة، أما الآن فهناك موظفون يمتلكون العمارات الشاهقة والسيارات الفارهة دون أن يسألهم أحد من أين لكم هذا وأنتم لا تتجاوز مرتباتكم بضع آلاف فكيف وصلتم للذي وصلتم إليه، لذا فإن دعوة رئيس الجمهورية بانتهاء عهد التمكين والتسييس دعوة لعودة الخدمة المدنية لوضعها الطبيعي.