الأغصان الـخضراء..!!
الأميرة ذات السنوات الخمس جلست (متحكرة) وسط سريرها منهمكة في صناعة عقدها, حبات الخرز الكبيرة الملونة هي كل عالم طفولتها, جزلة سعيدة تلتقط حبة من الطبق أمامها تساوي طرف الخيط بين سبابتها والإبهام لإدخاله في الثقب.. تعاود الكرة بعد أن تبلل طرف الخيط بريقها.. تنجح هذه المرة.. تبتسم، فقد أفلحت وتكرر “قمر” نضم الخرز تباعاً بصبر لا يعرف الملل.. من حدث الصغيرة عن الحُلي والزينة وعالم الجمال؟؟ إنها الفطرة.. لم تهرول “قمر” كعادتها عندما سمعت والدها يفتح باب الجراج فهي تريد أن تريه صناعتها الحلوة الملونة.. الآن اكتمل العقد.. ها هي “قمر” ترفعه لتطوق به جيدها الصغير ولكن كالصقر المتلصص كمن لها شقيقها “معتز” ابن السنوات السبع، خطف العقد وانطلق يجري به تاركاً الباب مفتوحاً.. غيبتها المباغتة.. “قمر” لا تزال ممسكه الهواء بكفيها في محاذاة جيدها تماماً وأخيراً انتبهت أنها تمسك الفراغ.. ركضت وراءه.. الميدان الواقع خلف دارهم تحول إلى صحراء ممتدة.. صرخت بغضب: (معتز) لم يلتفت إليها، بل زاد من سرعته.. كررت صراخها بتوسل: (معتز أقيف)، فكان رده على توسلاتها أن توقف.. لا لتلحق به بل لفك أسر عدد من خرزات عقدها و(وهطها) في باطن يده.. وقف على أمشاطه ثم قذف بها بعيداً.. صرخت في هستيريا: (حرام عليك).. وكأنها تزودت بطاقة مهولة.. أسرعت في جريها، فقطعت مسافة الكراهية التي امتدت بينهما.. قفل عائداً ولكن بعد أن بعثر كل حبات العقد.. لم يترك سوى خمس خرزات (سوداء, بيضاء, خضراء, حمراء وصفراء)، بينما تدلى جزء كبير من الخيط الفارغ شاهداً على جبروت (آدم الصغير هذا).. رجع الصبي إلى الدار يمشي الهوينى, بينما أسرعت خطوات “قمر” لتجمع الحبات المنثورة وبأنفاس متقطعة انحنت والتقطت أول خرزة، وعلى مسافة غير بعيدة حصلت على ثلاث أخريات, تجميعها لعقدها غسل عنها قليلاً من الغضب الغليظ.. منت نفسها بـ(الإعادة).. قارئي العزيز بربك كم من إعادة خلخلت بنات حواء وفي مراحل مختلفة من حياتهن؟؟ ما يهمنا هنا عثور “قمر” على الخرزات الخمس التي لم تفلح القبضة القاسية على انتزاعها، وحقيقة فإن الأيدي القاسية تقف عاجزة مشلولة عند لحظة ما، فإن للجبروت حداً لا يتخطاه.. إنها (خُمار)- بضم الخاء– الأمل عند النفوس المتعبة.. وهكذا حلمت “قمر” بأن تعيد صناعة عقدها.. عدد غير قليل ابتلعته رمال الميدان.. ضمت ما وجدته بقبضتها الغضة الصغيرة.. بالطبع خالطته بعض حبات الرمل التي بللها عرق الخوف.. داخل الدار جلس “معتز” بدم بارد يتابع التلفزيون.. انتهت ماجدة والدته من تجهيز الغداء، بينما كان “طارق” زوجها يؤدي صلاة العصر.. سألت “ماجدة” ولدها: (قمر وين؟؟) ودون أن يلتفت لها رد: (ما عارفها).. بتلقائية نظرت إلى السرير الذي شهد صناعة العقد.. لا يزال الطبق موجوداً, ومداسا صغيرتها بقي أحدهما منكفئاً على بعد خطوات من السرير. أما الآخر ففي وضعه الطبيعي.. في تلك الأثناء أنهى “طارق” صلاته, وخاطب ابنه: (قوم نادي أختك من جوه) فاستدار “معتز” هذه المرة ليرد: (قمر جوه مافي)، فسألته أمه في استنكار: (إنت قاعد في محلك وتقول أختك مافي) انتبه عندها وغادر الصالة.. ونادى “طارق” ابنته: (يلا يا قمر الغداء) ووجه الحديث لأمها: (تلقيها قدام المراية مش كانت بتعمل ليها في عقد)، ولكن.. لا.. فقلب “ماجدة” تشاءم من (النعال) المقلوب، فجعلت تبحث عنها بنفسها.. نادت على زوجها (طارق بتك مافي)، رد مطمئناً: (هسع لما أنا جيت كانت قاعدة هنا تنضم في عقدها يعني مشت وين الأرض انشقت وبلعتها؟).. “ماجدة” (لفحت توبها) وقصدت أول جارة لها وسألت من عند الباب: (رحاب.. قمر عندكم؟؟)، وجاءها الرد: (لا يا خالتو).. خفق قلبها بشدة، بل طار من الفزع وجعلت تدور على الجيران ولكن بلا فائدة, عادت إلى منزلها بسرعة تستنجد بزوجها، وبعد قليل وأمام الباب وقفت “قمر”.. الطرقات الحزينة بشمالها على الباب لم تُسمع بالداخل, خافت أن تفرد يمناها فيضيع منها ما جعلت تجمعه لوقت طويل من عقدها الحلم.. أمسكت بحجر صغير, فجاءت ضرباتها على الباب قصيرة متتابعة.. جفل “معتز” زادت حدقتاه اتساعاً وقال: (أهي بتدق في الباب).. خطوات أمها كانت الأسرع.. فتحت الباب وصرخت: (كنت وين يا بت؟؟).. انحبست الحروف المتقطعة داخل الحلق اليابس: (كنت..) ولم تستطع “قمر” الرد، بل فردت كفها الصغيرة فرأت “ماجدة” خيط العقد المتدلي, فصرخت مولولة: (سجم خشمى القطع العقد من رقبتك منو؟؟) لم تنتظر أية إجابة من الصغيرة المرعوبة، بل هزتها بشدة وجعلت تتفحص ملابسها وجسدها.. و”قمر” ممسكة بقوة على حلمها.. أقبل والدها مسرعاً: (كنت وين؟؟ ردي).. كانت “قمر” توزع نظراتها المرعوبة بين ثلاثتهم، ثم نظرت لشقيقها فتدفقت كلماتها كشلال: (دا ولدك يا أمي خطف عقدي وجدعو لي هناك في الميدان أنا جريت وراهو وقعدت أفتش فيهو واحدة واحدة، لكن ما لقيتو كلو).. أحست “ماجدة” بأنها لا تقوى على الوقوف على قدميها فانهارت على (الجابرة).. أمسكت بجلابية “معتز” بقوة أجبرته على الجلوس مرعوباً بجوارها.. أحس “طارق” بالذنب لقسوته على صغيرته.. حملها.. أراح رأسها على كتفه.. قالت “قمر” (نزلني يا أبوي رجليني مليانة تراب).. ضمها إليه أكثر.. بينما فتحت “قمر” كفها ثم لمعت حدقتاها.. أزاحت رأسها وهتفت: (هيْ شوف يا أبوي التراب بقى طين).. تناست بطفولتها انفراط عقدها, وغضب والديها، وانشغلت بتخليص خرزاتها التي تبقت من الرمل المبتل: (تعالي) قالها الوالد في حنو.. انحنى أمام صنبور الماء.. أمسك يديها الصغيرتين والتقط الخرزات, نبهته قائلة: (براحة يا أبوي ما تقع منك واحدة في الحوض).. ابتسم موافقاً، وبحرص جمع الخرزات بشماله وغسل يد صغيرته من الرمل المبتل بعرق الانفعال.. قررت “ماجدة” أن (تكسر رقبة) ولدها.. إنه بلا شك يستحق ذلك: (إنت عيان) قالتها بلا تردد: (أكيد إنت يا ولد مريض.. ده شنو السويتو ده؟؟).. دافع عن نفسه: (أنا كنت بهزر معاها).. في هذه اللحظة تحديداً وقفت “قمر” أمام والدتها وسألتها: (يمة إنت قاعدة في الواطة ليه؟؟).. انتاب “ماجدة” إحساس وآخر، فالدقائق الماضية كانت مزلزلة.. نادت صغيرتها: (تعالي) وجلست “قمر” أرضاً.. حقيقة أن الأرض وحدها هي التي تستطيع حمل أثقالنا.. مسحت على شعر صغيرتها القصير (قمر, مهما يحصل ما تمرقي من البيت إلا إذا كلمتيني).. نفس الكلام كرره لها والدها فما عادت الأسر تأمن على صغارها.. قطب جبينه حزيناً.. طرحت “قمر” ما بين حاجبي والدها كما تفعل كلما رأته غاضباً قائله: (أبوي ما تصر وشك).. حدث “طارق” نفسه: (قمر كيف أحميها وحتى العفريت معتز؟).. “معتز” ما أن رأى نظرات والده حتى أسرع قائلاً: (أبوي أنا متأسف).. طلب منه والده أن يعتذر لأخته أولاً, وأجلسه بجواره قائلاً: (معتز إنت عارف عملت شنو؟؟).. أسرع “معتز” مردداً: (آسف.. آسف يا أبوي).. أراد “طارق” و”ماجدة” أن يطرقا الحديد وهو حامٍ فما حدث اليوم نبههما أن مهمتهما تمددت وشملت مساحات أوسع، وفي جلسة الغداء قال الوالد: (معليش غدانا الليلة اتأخر شوية, لكن برضو حنسمي ده غداء عمل).. كتم “معتز” ضحكة شقية ندت عنه قائلاً: (يعني زي ناس المسلسل كده) فرد والده: (غداء عمل يا معتز عشان حنتكلم في مواضيع مهمة ونحن بنتغدى, مفهوم؟) هز الصغيران رأسيهما, فتابع والدهما: ( شوفوا.. أوعو تخلوا أي زول يهبش هدومكم ولا جسمكم ولا يديكم قروش أو هدية وما تشيلوا أية حاجة من أي زول.. ولو في أي زول حاول يخوفكم تجوا تكلمونا طوالي.. وإنت يا معتز، قمر أختك دي مسؤوليتك إنت, يعني مافي داعي للهزار الدمو تقيل, هسع أنا وأمك اتخيلنا إنه في زول أذى أختك وكنا حنموت من الخوف عليها، لكن الكويس في الموضوع إنه ده نبهنا عشان نتكلم معاكم في مشاكل ممكن تلاقيكم وإحنا بعيدين عنكم.. أوعوا تخجلوا أو تخافوا إنكم تتكلموا بأي شيء يضايقكم وفي أي مكان).. بدا “معتز” أكثر انتباهاً الآن فاسترسل والده: (مرات بنسمع إنه في طفل اعتدوا عليه!!) فتساءلت “قمر”: (يعني شنو اعتدوا عليهو؟؟) فردت أمها: (يعني في ناس ممكن يأذوا الطفل في نفسه وفي جسمه عشان كده أبوكم قبيل قال ليكم ما تخلوا زول يهبش جسمكم ولا هدومكم خاصة الداخلية).. بفطرتها السليمة أوقفت “قمر” والدتها من الاسترسال قائلة: (ده كلام شنو يا أمي.. الأم بس هي البتغير للزول هدومو).. ابتسمت والدتها (أيوه كلامك صاح لكن في ناس– قليلين أدب شديد– بيقربوا من الزول ويحاولوا يأذوه ومرات بيخوفوه.. عشان كده أصلو ما تسمحوا لي أي زول يخوفكم وتجوا تكلمونا بأي شيء يحصل ليكم.. اتفقنا.. إحنا أصحاب وما في زول حيدس من الأم والأبو حاجة.. صاح؟؟)، فرد الصغيران: (صاح يا أمي).. وبدآ في تناول طعامهما، ولكن ظل الحديث يدور في رأس الوالدين فمراحل التربية والمسؤولية تتدرج، وباتت الآن مرحلة الحديث الصريح الواضح والمراقبة اللصيقة، فهذان الغصنان الأخضران بحاجة إلى الحماية والتأمين بالإضافة إلى التبصير، فقد تبدو مسألة مزاح “معتز” مع شقيقته عادية وبسيطة، لكن منظر العقد المقطوع أثار هلع والديها باحتمال تعرضها لمصيبة مما دق في رأسيهما ناقوس الخطر، والتنبيه لفتح مواضيع مهمة مع صغيريهما، ولكن هذا لا يكفي فهذه مسؤولية جماعية.
حقيقة، لقد أطبقنا الصمت طويلاً حتى أمسكت نيران الأذى بأطراف ثياب بعض صغارنا ونحن في غفلة من أمرنا، فإن لم نطفئها بالمسؤولية والوعي والاستفادة من المواقف للتنبيه فستقضي على الأغصان الخضراء.