من له رزق سيناله..!!
سعيت للاغتراب بكل جهدي، وكانت ليبيا هي هدفي، لذا حاولت كثيراً أن أصل إلى أي مسؤول بالسفارة الليبية في الخرطوم، وكتبت طلبات عديدة مستغلاً حاجة الليبيين إلى معلمين واعترافهم بدبلوم معهد التأهيل التربوي الذي حصلت عليه، ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل إلى أن اقتنعت أخيراً أنني لن أحصل على هذا الاغتراب مهما بذلت من جهد، وقررت ألا أحاول مرة أخرى لأنه جهد ضائع، ولكن الله أراد شيئاً آخر. إذ قرر أن أحصل على الاغتراب في بلد آخر هو السعودية وبطريقة لا تخطر على بال أحد.
كنت في ذلك الحين معلماً للغة الإنجليزية بمدرسة (الجيلي الثانوية)، وأقيم في منزل حكومي، وظننت أن حياتي ستمضي على هذه الوتيرة فنسيت الاغتراب نهائياً، ولكن الله أراد شيئاً آخر.. كنت أحضر إلى مكتب مدير المدرسة كلما لمحت ضيفاً لأننا نجد عنده صحف اليوم، في ذلك اليوم حضر ضيف ومعه صحيفة وكالعادة طلبت منه إعارتي صحيفته لدقائق، وما أن فتحت إحدى الصفحات حتى فاجأني إعلان باللغة الإنجليزية في صحيفة (الأيام) السودانية.
وجدت الإعلان عن حاجة شركة سعودية إلى مترجمين ووظائف أخرى.. كنا في الحصة الثانية وكان المفترض أن أذهب إلى الخرطوم لشراء دواء لابنتي الصغيرة، فاستأذنت من المدير في الذهاب لإحضار الدواء، ومن غرائب الصدف أنني وجدت بص (أبو رجيلة) متحركاً لحظة خروجي في طريقه إلى الخرطوم فركبته وأنطلق مسرعاً كأنه يلبي رغبتي لأن الإعلان أشار إلى أن ذلك اليوم هو اليوم الأخير للتقديم، ووصلت إلى شارع الجامعة حيث مكتب تشغيل السودانيين بالخارج خلال أقل من نصف ساعة.
فوجئت بزحام شديد على كل النوافذ، فأصابني اليأس.. أخيراً لمحت إحدى النوافذ بدون زحام بل لم يكن بها أحد، فقلت لن أخسر شيئاً إذا سألته، ولما عرف أنني أسأل عن وظائف المترجمين قال لي هات طلبك لأني على وشك التحرك وإغلاق النافذة.. أعطيته طلبي، فطلب مني الحضور بالباب، وفي الباب طلب من الحارس السماح لي بالدخول وعندما دخلت كان هناك عشرات المتقدمين في كامل أناقتهم، بعضهم يعمل مترجماً في جامعة الخرطوم، فقلت لنفسي كيف سأتفوق على هؤلاء؟ ولكنني قررت الانتظار، وبعد قليل بدأوا ينادون على المتقدمين.. لاحظت أن كل واحد يدخل إلى الغرفة ويمكث دقيقتين أو ثلاث دقائق ثم يخرج.
وجاء دوري وما أن دخلت حتى فاجأني الخواجة بسيل من الجمل الإنجليزية وأسئلة عن السبب في تقديمي للوظيفة ومؤهلاتي فأجبت عنها كلها، وأخيراً طلب مني الحضور إلى فندق (هيلتون) للجلوس للامتحان التحريري في الساعة السادسة.. وكانت الساعة قد اقتربت من الثانية ظهراً فانطلقت إلى أقرب صيدلية لإحضار الدواء ثم انطلقت إلى الجيلي ومعي الدواء ووصلت عند الخامسة، وطلبت من أفراد أسرتي سرعة التحرك لأن أي تباطؤ سيضيع عليّ الفرصة التي انتظرتها طويلاً.
وتحركنا من الجيلي لأصل الخرطوم في تمام الساعة السادسة إلا ربعاً، وذهبت إلى منزل الأسرة بالامتداد وشرحت سريعاً سبب استعجالي وتركت معهم ابنتي وزوجتي وانطلقت بسرعة إلى شارع الامتداد ولم يتبق معي إلا خمس دقائق، لكن سائق تاكسي تفهم الموقف فحملني إلى فندق (هيلتون)، ووصلت إلى الطابق الثامن بعد حوالي عشر دقائق من بدء الامتحان فوجدت ورقتين مطبوعتين على مقعدي كانا عبارة عن قطعتين إحداهما بالعربية والأخرى بالإنجليزية لترجمتهما إلى اللغتين، ومن أغرب الأمور أنني انتهيت من الترجمة خلال عشرين دقيقة.. ولما لاحظ المراقب أنني لا أكتب سألني ولم يصدق أنني انتهيت من الامتحان، فأخذ يقرأ ترجمتي في العربية إلى الإنجليزية ليلعق بكلمة واحدة (Excellent) وطلب مني الحضور في اليوم التالي لتوقيع العقد، وكنت الوحيد من تلك المجموعة الذي أعلن قبوله من داخل قاعة الامتحان.. هكذا أراد الله أن تكون بدايتي مع الاغتراب، وهي تؤكد أن الأرزاق بيد الله وحده.