النسوة الـخمس..!!
منافذ الولوج لحكايتي كثيرة متشابكة, فمن أين أدخل؟؟ فحكايتي مع الحياة مثل بيت العنكبوت.. خيوط متداخلة متشابكة، وكلما ظننت أنني نجوت أصطدم من جديد بنسيج يلفني ويقيدني.. إنه صراع مرير وبلا نهاية أو هكذا حسبته.. حسناً سأبدأ بأقوى الخيوط لحظة أن دخل الهواء لأول مرة رئتيّ الجديدتين وصرخت صرخة الميلاد.. في هذه اللحظة بالتحديد سكتت أنفاس أمي تماماً وغادرت الحياة.. لم يرحب أهل أمي بميلادي، بل تشاءموا بي.. وكما علمت لاحقاً فقد تولت أمري جارة أمي وصديقتها خالتي “إحسان”, بقيت عندها قرابة العامين ولحسن حظي فقد أنجبت قبل أمي بعدة شهور ابنها البكر “فارس” فأرضعتني معه، بل عاهدت نفسها أن تتولى أمري، فاليتيم إثبات هوية عند الأفاضل.. وجودي مع خالتي “إحسان” عوضني عن سواها خاصة خالاتي اللائي تخلين عن مسؤوليتي تماماً.. أما حبوبة “بتول”– جدتي لأمي– فقد حملتني مسؤولية موت ابنتها فكرهتني ونادتني بـ(الشقية).. ضيعت اسمي تماماً حتى أندادي كانوا ينادونني بـ(الشقية)، إلا أن خالتي “إحسان” هددتني بأنها ستغضب مني إذا استجبت لهذا الاسم عند مناداتي به، وذكرتني بأن اسمي هو “حياة” وهو أسم جميل.. ومن ساعتها صرت أدافع عن اسمي بقوة، وبدأت كراهيتي لحبوبة “بتول” التي لم تزدها الأيام إلا كراهية لي، وتناست تماماً أنني الوحيدة التي افتقدت أمي بحق. بعد ثلاثة أعوام من رحيل أمي تزوج أبي من “هدى” إحدى قريباته, التي عاملتني بمنتهى الكرم، فقد منحتني عاماً كاملاً من الأمومة والرعاية، وما أن وضعت “فاتن” بكرها حتى تغير الحال، سامحها الله، فقد نسيتني تماماً.. بل منعت حتى مجيء “فارس” بحجة أننا نزعج “فاتن” في نومها.. اقترحت خالتي “إحسان” أن أعود إليها وكم كانت فرحتي كبيرة.. سريعاً جمعت ملابسي بقدر ما استطاعت يدي الصغيرتان.. وبالعجلة انتعلت (فردة) واحدة من حذائي وجاءني والدي بالأخرى وهو يضحك، فقد كنت سعيدة رغم مشاكسة “فارس” وعنفه معي، ولكن زوجة أبي أصرت على إرجاعي إلى المنزل، وقد كان.. وهكذا مرت السنوات.. كبرنا وبات لـ”فاتن” أختي شقيقات وأشقاء ورزقت خالتي “إحسان” بالتوأم “عابدة” و”ساجدة”.. أرهقتني زوجة أبي بأعمال المنزل، الأمر الذي أثر وبصورة ملحوظة على تحصيلي الدراسي.. عندها رمى أبي باللوم على زوجته التي كانت حجتها أنني الأكبر سناً، فكان أبي حازماً وواضحاً فالكل عليه أن يساعد في الأعمال المنزلية، الأمر الذي لم يعجب زوجته فأسرتها لي وبدأت في عزل بناتها عني عدا “فاتن”، فقد فشلت معها تماماً أما بالنسبة لخالاتي فقد كن مشكورات يزرنني- وعلى عجل- في الأعياد.. هن لم يعلن العداء صراحة مثل أمهن ولكن إهمالهن لي يقول ذلك، وانسحب ذلك على أسرهن، فعلاقتي ببناتهن وأبنائهن تكاد أن تكون معدومة.. في نفس الوقت أجدني لصيقة بخالتي “إحسان” فهي أمي حقيقة.. هذا إحساسي تجاه هذه المرأة الرائعة، فأنا أقبل توجيهها، بل حتى عقابها في بعض الأحيان, عكس زوجة أبي التي أكره نفاقها وتملقها لوالدي بادعاء الاهتمام بي.. وشتان بين الصدق والادعاء في العواطف شتان.. تتابعت السنوات.. تخرجت في الجامعة والتحقت بالعمل في إحدى المؤسسات.. اندمجت في عملي، فقد كان محور حياتي.. أما في البيت فقد كنت اجتهد في أداء مهامي منعاً للمشاكل.. وفيما عدا ذلك كنت أقضي جل وقتي في غرفتي، التي كان أبي كثيراً ما (ينورها بوجوده)، الأمر الذي جعل جلساتي مع والدي طويلة وحلوة، وهذا ما كان يعكر صفو زوجته، التي كانت تستكثر عليّ حتى علاقتي بوالدي، وتتناسى أنها لم تحاول أن تقربني منها أو أن تخصني بشيء مما تختص به عيالها المتحلقين حولها.. أسمع ضحكاتهم ولا أستطيع المشاركة.. ويصلني عراكهم ولا أستطيع التدخل ونحن أخوة وبدار واحدة.. كانت مثل هذه المواقف تهزني وتذكرني بوحدتي وكراهية جدتي، فأحس بالحرمان من أنبل العواطف وأقواها (صلة الرحم)، ولكن ما كان يعزيني قليلاً أن علاقتي بأهل والدي حميمة، فعمتي الوحيدة “صفية” تحبني وتقربني منها، وابنتها “عبير”.. أما الجلوس مع جدي “السني” الملقب بـ(الفنجري) فهو جلوس غير ممل، فهو يحمل تاريخ السودان في عقله وقلبه.. نُقل رئيسي المباشر إلى إدارة أخرى وحل محله السيد “أحمد” تسبقه سيرته التي تشهد بأنه إداري من الطراز الأول، فهو يعمل من خلال المجموعة، ويقدر المبادرة من موظفيه, بل إن حياته الخاصة سبقت جلوسه على كرسي الوظيفة.. إنه من أسرة كبيرة العدد, هو على رأسها بعد أن أقعد المرض والده، بل كان الحديث حتى عن صومه عن الزواج بعد أن آلت إليه كل مسؤوليات أسرته.. بقيادة السيد “أحمد” تمكنا جميعنا من وضع بصماتنا على العمل، الأمر الذي انعكس على أدائنا فنحن إدارة تعمل مباشره مع الجمهور، ولأن الرجل اجتماعي بطبعه فقد تعدت علاقته معنا سور المؤسسة، وبدأ ذلك بدعوة كل موظفي الإدارة إلى الغداء بدارهم العامرة، حيث قامت أسرته باستقبالنا بنفس بشاشة وكرم ابنها.. حقيقة أن الروح التي أشاعها في الإدارة جعلتها تزدهر، وجعلت ساعات العمل الطويلة تمر سريعاً، وتمكنا من تحمل ضغط العمل.. رشحتني عمتي “صفية” للزواج من ابنها “عادل” وقالتها بالفم المليان: (ما حا ألاقى لي عادل أحسن من حياة بت أخوي إبراهيم).. حقيقة.. لقد سعدت بهذا الترشيح فـ”عادل” ابن عمتي شاب جاد وناجح في عمله الذي سيغادره قريباً للعمل بالخارج، الأمر الذي جعل عمتي تريد إتمام زواجه قبل سفره.. حديث عمتي “صفية” لم يعجب “هدى” زوجه أبي، وعلقت عليه بقولها: (كيف يعني تقول ما حتلقى أحسن من حياة بت أخوها إبراهيم.. هو إبراهيم ده ما عندو بنات غير حياة ولا شنو.. ولا هي بس صفية الما عايزة تشوف).. تزوجت صغرى شقيقات السيد “أحمد”، وبالطبع شاركنا في الفرح، بل ذهبت إدارتنا بهدية رائعة إلى العروس عرفاناً لشقيقها المحترم.. تغيب رئيسنا عن العمل ثلاثة أيام فكان غيابه مثار تعليق وقفشات من الزملاء.. قالوا إن الرجل ظن أن الزواج زواجه والدليل أنه خضب كلتا يديه.. وعند عودته نقل إليه زميلنا “إسماعيل” تعليقات الزملاء فرد قائلاً: (يا أخوانا الحنة دي لأنو العريس ذاتو ود خالي والجماعة أصروا إلا أتحنن).. ثم التفت إليّ قائلاً: (حياة, صحي أنا خلاص فاتني قطر الزواج) فرددت عليه بتلقائية: (والله بشوية جكة بتحصلو) وضج الجميع بالضحك.. عندها أحسست بالخجل وسألتهم: (أنا طبظتها ولا شنو؟؟).. في مساء ذلك اليوم ذهبت إلى منزل عمتي “صفية” أسبوع بحاله لم أرهم.. لاحظت بعض الفتور في سلام عمتي و”عبير” إلا أنني لم أعر الأمر كثير انتباه، ولكن حديث “نسرين” ابنة عمتي صدمني فقد أخبرتني أن “عادل” قد سافر.. مكذبة أذنيّ سألتها: (نسرين.. عادل سافر متين؟) ردت: (يوم الثلاثاء).. عندها دارت بي الأرض.. ما هذا؟؟ أحقيقة أنا شقية؟ أكتب عليّ أن تكون بداياتي هي نهاياتي؟؟ ولكن صبراً يا “حياة”.. “عادل” زارنا يوم الاثنين.. لقد كان متغيراً.. هو أصلاً قليل الحديث ولكنه في ذلك اليوم كان كل حديثه سلام ثم وداع.. الآن فهمت هو لم يخترني، بل رشحتني والدته، وقد جاء ليحل نفسه من قرار هو أصلاً لم يتخذه.. ولأنني اعتدت تقلبات الزمن فقد طويت الخبر وأودعته خزانة صدري, ولم تمض ثلاثة أيام حتى زارتنا عمتي.. جلست مع شقيقها ونصحته أن يزوجني بصاحب النصيب فـ”عادل” مرتبط بزميلته.. حدثت خالتي “إحسان” فقالت في هدوء: (قسمتك رااااقدة).. ورغم أنني حاولت التعايش مع الواقع إلا أن سحابة من الكآبة ظللت أيامي.. ذات أمسية سمعت زوجة أبي تحدث ابنتها حديث العارف المتأكد: (عارفه يا فاتن, صحي حياة أختك دى شقية, هسع ود عمتك خلاها, أصلها ما وش نعمة) وواصلت “هدى”: (كلام حبوبتها صاح هي فعلاً شقية) ولم تنس أن تتعوذ مني: (أعوذ بالله منها, الله يكفينا شرها).. لحظتها تملكتني رغبه قويه في رؤية حبوبة “بتول” والتحدث معها، ورغم الوقت المتأخر أخبرت والدي برغبتي فرافقني.. كانت تصلي العشاء.. جلست على حافة السرير.. كنت أتابع ركوعها وسجودها.. متدينة هي فلماذا غاب عنها أن الموت حق وأن كل من عليها فان؟ لماذا حملتني مسؤولية موت ابنتها؟ أنهت صلاتها اندفعت نحوها نظرت إليها بعمق.. إنها المرة الأولى التي أتمعنها فيها ولأول مرة ألمح فيها ملامح أمي التي عرفتها من صور الغالية الراحلة.. سألتها بكل غضبي: (إنت قلت إنو أنا شقية مش كده؟؟).. باغتها وجودي وسؤالي وغضبي فلاذت بالصمت، الأمر الذي زاد غضبي بشكل جعلني أصرخ في هستيرية: (ردي عليّ أنا شقية… أنا شقية؟؟).. صوت صراخي جعل أبي وجدي يأتيان مهرولين, بينما هزت هي رأسها علامة النفي.. أمسك والدي بيدي محاولاً تهدئتي ولكن هيهات.. قال جدي: (حياة.. ده كلام قديم الخلاك تتذكريهو شنو؟؟).. نظرت إليه قائلة: (كلام قديم؟؟ فعلاً هو عندك كلام قديم لأنك وافقتها عليهو قبل أكتر من عشرين سنة, إنت زيها تماماً عاقبتوني بي ذنب أنا ما ارتكبته) وخرجت من دارهم اليابسة من العواطف والمتحجرة. طلبت من والدي أن نذهب إلى عمتي “صفية”.. أجل في هذه الساعة المتأخرة.. قابلت عمتي أخبرتها أن “عادل” من حقه أن يختار وطلبت منها أن تنقل له تحياتي.. عدنا إلى دارنا.. أحسست بأنني خفيفة وتخلصت من عبء كبير.. في اليوم التالي لم أذهب إلى العمل وتغيبت ولأول مرة بدون إذن.. في الصباح الباكر رتبت غرفتي وخزانة ملابسي.. يومها قضيت وقتاً طويلاً مع نفسي.. لاحظت أثر هذه الهدنة مع نفسي في اليوم التالي عند ذهابي للعمل بخطى خفيفة ونشطة.. عند وصولي سألتني “كوثر” زميلتي عن غيابي يوم أمس وقبل أن أرد عليها رن هاتف المكتب الداخلي.. السيد “أحمد” يطلب حضوري, فقلت لنفسي: (كِملت.. ده أكيد غياب يوم أمبارح البدون إذن ده).. ذهبت وقد جهزت عُذري, وبالفعل بعد أن رد على تحيتي سألني عن غياب الأمس فرددت: (ظروف أسرية).. لم يزد.. أحسست بأنه يريد الحديث، وقد كان، ولكن جاء حديثه بغير ما توقعت.. سألني: (حياة.. إنت مخطوبة؟؟) أجبته بالنفي, فواصل: (تقبلي تتزوجيني).. بصراحة ألجمتني المفاجأة, فتابع حديثه: (إذا جا ردك بالقبول فده الأنا بتمناه ويسعدني, أما إذا كان الرفض فتأكدي إنو ده ما حيغير حق الزمالة بينا).. عند عودتي قصدت أمي (خالتي إحسان).. أخبرتها.. ردت: (خير)، ونقلت هي الخبر إلى والدي مثلما تفعل كل أم.. وافق والدي وتحدد يوم الفرح.. أخذت أشيائي وذهبت إلى بيت أمي تماماً مثل ذلك اليوم البعيد– أتذكرونه- أمي التي أخلصت كعادتها في تجهيز كل ما يخص المناسبة وبالتفصيل.. ولدهشتي هنا فقط تحركت النسوة الخمس.. زوجة والدي.. خالاتي الثلاث.. ثم “بتول” يردن فجأةً أن يقمن بدور الأم بعد خمسة وعشرين عاماً، ولكن كانت خالتي “إحسان” هي أم العروس المشغولة ومشغولة.. أما “فارس” فقد كان جواد رهاني الذي لم يشتك من كثرة المسؤولية التي ألقتها أمي على كتفيه, إلى أن كانت الأمسية الكبيرة.. قاد عربة زفافي بنفسه.. نزل منها بزيه القومي الكامل.. فتح لي باب العربة.. سار بي فخوراً بين المدعوين.. سلمني لزوجي قائلاً: (نحن بنسلمك جوهرة أرجوك حافظ عليها).. وهنا دمعت عيناه وابتسم ابتسامة أخوية صادقة قائلاً لي بمشاكسته المعهودة: (الحمد لله ارتحنا منك).. عندها تساقطت دموعي، ولكن زغرودة أمي “إحسان” مسحتها وإلى الأبد.