بيان الترويكا .. صب الزيت على نار «أبيي» ..!!
رغم أن ما تبقى للاستفتاء الذي أعلنته حكومة جنوب السودان فترة لا تزيد عن أيام الشهر الواحد، إلا أن كل المؤشرات والإرهاصات تشير إلى قيام الاستفتاء الذي يخير سكان المنطقة بالانضمام إلى الدولة الوليدة أو إلى نظيرتها الأم، ورغم تأكيد طرفي الأزمة في الشمال والجنوب على أهمية حل القضية العالقة منذ توقيع اتفاقية السلام على وجوب حسمها داخل البيت السوداني دون الحاجة إلى وسيط، مثلما أكد «سلفا» في أكثر من مرة أن أبيي لن تكون عائقاً أمام البلدين، مستبعداً تماماً اللجوء إلى الآلة الحربية لحسم تبعية المنطقة، وذات اللهجة التصالحية أبدتها الحكومة السودانية وأظهرت المرونة اللازمة للوصول إلى حلول ناجعة.. وغير بعيد من ذلك الحديث الذي أطلقه وزير الخارجية السوداني «علي كرتي» برفض بلاده الوساطة الأمريكية في شأن الملف، وقوله إن بلاده ترفض أية وساطة أمريكية في قضية أبيي، عاداً (أمريكا غير مؤهلة للحديث عن قضايا السودان الداخلية)، وقال إن السودان لن يقبل بأي حديث في هذه الموضوعات، (وهذه قضايا لا تهم أمريكا ولا غيرها، وأبيي هي القضية الوحيدة التي تبقت لأمريكا لإفساد العلاقة بين السودان والجنوب)، مؤكداً أنه لن يكون لمبعوث الرئيس الأمريكي دور في قضية أبيي.
بعد كل تلك الإشارات الإيجابية من طرفي القضية وسعيهم المصحوب بالتصريحات المتقاربة، تبدو الأزمة الآن في طريقها إلى التعقيد مرة أخرى، ومجموعة دول (الترويكا) التي تضم أمريكا وبريطانيا والنرويج تحث الأطراف المعنية لتخطو خطوات محسوسة لإجراء استفتاء آمن وشفاف وفي موعده في منطقة أبيي.
تخفيف الأزمة
لقاء الرئيسين في الخرطوم خلال الأسابيع الماضية، أزال كثيراً من الاحتقان الذي تولد بعد اتهامات الخرطوم لجوبا بدعم قوات الجبهة الثورية، وتصاعد الخطاب الجنوبي بإجراء استفتاء أبيي في المنطقة، إلا أن اللقاء الذي لم يمتد إلى أكثر من ساعات قلائل، ورغم تحاشيه الحديث عن أزمة أبيي المنطقة (الملغومة)، فإن تصريحات الرئيسين خففت كثيراً مما يعتمل في النفوس، يعضدها تأكيد الرئيس «البشير» في كلمته أثناء اللقاء عزم السودان على إيجاد حل نهائي ومرضٍ للأطراف كافة في أبيي بما يضمن تعايشاً سلمياً بين مكونات المجتمعات المحلية توطئة لإيجاد تسوية نهائية للمسألة، وإشارته إلى ضرورة حل أزمة المنطقة المتنازع عليها حتى لا تكون خنجراً في خاصرة علاقات البلدين مستقبلاً. وكان حديثه متناغماً مع حاجة الشعبين إلى عدم اللجوء إلى ما يحرق الحرث والنسل مرة أخرى بعد عقود الاحتراب التي لم تنزع من النفوس حتى انفصل الجنوب عن الشمال.
تلك القمة أظهرت تماماً أن ما يجمع بين الدولتين أكثر مما يفرق. ولعل قائدي البلدين يضعان نصب أعينهما أن أي تدخل دولي من شأنه أن يزيد الأزمة تعقيداً، ولن يعجل بحلها وسيصب المزيد من الزيت على نار الخلافات التي بدأ أوارها في الخفوت شيئاً فشيئاً.
مسارات وسيناريوهات
وكان الاتحاد الأفريقي قد تبنى في قمة رؤساء الدول سبتمبر من العام الماضي المقترح الذي تقدم به رئيس الآلية الأفريقية رفيعة المستوى «ثامبو أمبيكي»، الذي ينص على إجراء استفتاء أبيي أكتوبر المقبل. وقوبل ذلك المقترح برفض من قبائل (المسيرية) التي تصر على التصويت في الاستفتاء المزمع إجراؤه في المنطقة. وتحفظ السودان على هذا المقترح في حينه، وأكد (لا ينبغي أن يؤسس على هذا المقترح أي إجراء)، إلا أن الناظر «مختار بابو نمر» طالب الحكومة بأن تكون أكثر حسماً تجاه القضية، وأبلغ (المجهر) أمس أن على الحكومة أن تتخذ مواقف أكثر وضوحاً، خاصة وأن منطقة أبيي ليست ملكاً لـ(المسيرية) وحدهم، بل هي تتبع للحكومة، مشيراً إلى أنهم دفعوا برأيهم القوي تجاه تلك القضية.
أما في جانب (دينكا نقوك)، فلا يمكن إغفال الحديث الذي أطلقه الدكتور «لوكا بيونق» القيادي بالحركة الشعبية لتحرير السودان والناشط في قضية استفتاء منطقة أبيي، حول الخطوة التي ستقدم عليها عشائر (دينكا نقوك)، في حال فشل قيام الاستفتاء في أكتوبر بعد رفض الخرطوم لقيامه في الموعد المحدد.. قال «بيونق» إنه في هذه الحالة يحق لـ(دينكا نقوك) أن يرفعوا القضية في محكمة العدل الدولية ضد السودان الذي اتهمه بأنه يماطل في تنفيذ اتفاق سياسي بين الطرفين، كما أبان أن عشائر (دينكا نقوك) التسع يمكنها، في حال رفض السودان، أن تقوم بإجراءات للتصويت من طرف واحد وإجراء الاستفتاء بالطرق العادية لصالح خيارها النهائي، من خلال الاستعانة بأعضاء المفوضية التي قامت بإجراءات استفتاء جنوب السودان في 2011م. وأضاف بالقول: (لكن هذا يحتاج إلى موقف واضح من حكومة جنوب السودان).
ولم يستبعد «بيونق» أن تقود تلك الضغوط إلى تدخل الأمم المتحدة وفرضها للوصاية على المنطقة إلى حين قيام الاستفتاء، أو أن تتم إحالة الملف برمته إلى مجلس الأمن الدولي في حال فشل الطرفين في التوصل إلى حل للقضية، لكن هذا أمر يتطلب جهداً دبلوماسياً كبيراً للتأثير على مواقف روسيا التي تنظر إلى مصالحها الإستراتيجية مع السودان، إلى جانب الصين التي تربطها علاقات تجارية مع الخرطوم. كما رجّح إمكانية إقدام عشائر (دينكا نقوك) المقيمة في أبيي على جمع توقيعاتهم التي يمكن أن تصل إلى (60.000) توقيع، وإعلان أبيي منطقة تابعة لجنوب السودان، وتلك الخيارات المتعددة لـ(دينكا نقوك) يمكنها أن تحدث اضطراباً واسعاً في المنطقة رغم الأصوات العاقلة داخل الحركة الشعبية التي تستبعد خيارات التصعيد، ولكن حديث «بيونق» لا يمكن تجاوزه خاصة بعد أن ألمح إلى إمكانية التدخل الأجنبي في القضية التي يمكن أن تتخذ مسارات جدية غير التي رسمها قادة الدولتين في حال اعتزمت الجهات الأجنبية مثل (الترويكا) إقحام نفسها في القضية.
ثم جاء توقيت بيان (الترويكا) في وقت يمكن وصفه بالحرج جداً بعد اقتراب الموعد المضروب من دولة الجنوب لإجراء الاستفتاء في أبيي، وقد يكون توقيت البيان قريباً من التصريحات التي وصف خلاها «سلفا كير» الاتحاد الأفريقي بعدم الجدية والفشل في إنفاذ مقترحه بإجراء استفتاء أبيي في موعده، وثمة ما يتسربل رويداً رويداً بأن تلقي تلك الدول في روع طرفي الأزمة أن مفاتيح الحل مخبأة في خزانتها بقدراتها اللوجستية والاقتصادية والسياسية، وهو ما قد يجر الأقدام والأعين الدولية إلى النزول في باحة أبيي، بعد أن تهيئ الدول الغربية الأجواء بمثل هكذا بيانات.. ولهذا، فإن إبقاء حل المنطقة حلاً جذرياً رهين بأن لا يخرج عن إطار الحل السوداني أو الأفريقي بعيداً عن عدسات أصحاب الأعين الخضر.