المشهد السياسي

السياسة الأمريكية تلعب على مصالحها وفرصها

وذلك شيء طبيعي ولا خلاف عليه، فبالأمس البعيد عندما أعلن “النميري” قوانين سبتمبر الإسلامية في 1983م، كانت شركة (شيفرون) الأمريكية قد غادرت في (1984) حقل الوحدة، حيث منح لها حق التنقيب عن النفط، تاركة خلفها تسعين بئراً مغلقة لم يخرج منها غير زجاجة واحدة احتفل بها يومئذٍ..!!
أما ما هو أكبر هنا فهو التحاق العقيد “جون قرن دي مبيور” بحركة التمرد في أديس، التي كانت في بادئ أمرها (اشتراكية الوجهة) وهي في حضن الرئيس “مانجستو هايلي ماريام” أي تابعة للمعسكر الشرقي الذي انقلبت عليه في ما بعد وصارت غربية الهوى.. ثم وجدت الدعم السياسي والمادي والعسكري منه، بما في ذلك الخطط والإستراتيجيات بخاصة، وقد أعلنت عن شعارها (السودان الجديد العلماني الاشتراكي الموحد)، وإن كانت عبارة (الاشتراكي) قد ذهبت هي الأخرى مع ذهاب المعسكر الشرقي وتفككه بعد (البريسترويكا).
إن نظام الرئيس “نميري” لم يفقد النفط وحده بعد إعلانه التوجه الإسلامي، وإنما نظامه بالكامل الذي أسقطته انتفاضة 6 رجب – أبريل 1985م وهو في الولايات المتحدة، وبعدها جمهورية مصر العربية التي ظل فيها لسنوات بعد ذلك. فقد كان للإدارة الأمريكية يومئذٍ دورها وتفاهمها مع جمهورية مصر العربية في من يخلف “النميري”، حيث لم تكن الانتفاضة بتفاصيلها التي خرجت بها متوقعة للطرفين. وعليه ورغم أن الانتفاضة قد أعقبت حكومتها الانتقالية بعد عام واحد – (أبريل 1986م) – حكومة ديمقراطية منتخبة ولها برلمانها أو جمعيتها التأسيسية المكونة من أحزاب سياسية، لم تجد دعماً أو سنداً من الإدارة الأمريكية.. ذلك أن تلك الحكومة لم تستطع إلغاء قوانين سبتمبر الإسلامية وإنما ظلت على ما هي عليه..!
لقد ظل الحال على حاله دعماً للحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM) وحجباً للمساعدات الخارجية.. فقد كانت الشواهد تقول بأن الحركة الشعبية – والأحزاب السياسية تهاجر إليها في أديس وقيون وكوكادام وغيرها وبقدرتها وحراكها العسكري الأكبر – ستضع يدها على موقع القرار في المركز والعاصمة (الخرطوم)، خاصة وأن القوات المسلحة السودانية يومها كانت قد رفعت إلى الجهات العليا مذكرة تشكو فيها أمرها وسوء حالها.. وكانت المذكرة بتاريخ 22/فبراير 1989م.
السياسة الأمريكية وهي تلعب على الفرص والمصالح، لم تفرق بين نظام “النميري” العسكري يومئذٍ ولا نظام “المهدي” الديمقراطي الانتخابي الذي ظنه، طالما أن قوانين الشريعة الإسلامية التي عرفت بقوانين سبتمبر 1983م لم تلغ.. فقد كان الأمل والرجاء يومها على الحركة الشعبية لتحرير السودان SPLM والجيش الشعبي لتحرير السودان SPLA.
وبعد 30 يونيو 1989م ظهرت للنظام الجديد هويته الإسلامية واستخدام كل ما لديه في مواجهة الحركة الشعبية وجيشها الشعبي، ثم توجه الدولة السودانية الجديدة نحو الشرق الأقصى (الهند والصين) عوضاً عن الغرب في الاستثمار والتقنية والتعليم وتحريك الموارد.. ونشط الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة الضغط السياسي والدبلوماسي والمقاطعة الاقتصادية وغيرها للتضييق على النظام الحاكم في البلاد فقد كان الضغط عبر:
– عدم الإعفاء من الديون الخارجية.
– عدم سحب اسم السودان من قائمة الدول التي يقال إنها داعمة للإرهاب بعد أحداث الحادي عشر تحديداً.
– ثم الادعاءات الأخيرة الخاصة بالمحكمة الدولية الموجهة للسيد رئيس الجمهورية وهي في جملتها سياسية شأن المحكمة نفسها.
والرد على كل من هذه النقاط ميسور ومتاح تبعاً للوقائع والشواهد. فالإعفاء من الديون الخارجية له ما يبرره بالنظر لظروف البلاد الاقتصادية ودورها في مجتمعها المحلي والإقليمي. والإرهاب بعد تسليم “كارلوس” لفرنسا لا مبرر له، كذلك وإخراج “بن لادن” بطلب من دول مجاورة، وقد كان رجل أعمال له مشاريعه الاقتصادية وليس مغامراته الإرهابية. أما الجنائية الدولية فلم تعد أفريقيا لها من يثق بها وهي الآلية السياسية أكثر منها قانونية، رغم ميثاق روما الذي أسست عليه.
مواجهة نظام الإنقاذ التي كانت بادئ الأمر عبر الحركة الشعبية وحراكها العسكري، بدا واضحاً بعد سنوات قليلة أنها غير ذات جدوى ولن تحقق ما هو مرغوب فيه، وهو تغيير النظام الحاكم، وإنما يتعين الاتجاه إلى سبيل آخر هو سبيل السياسة والتفاوض وليس البندقية.
فكان دخول دول الإيقاد في عملية الصلح والتفاوض من أجل السلام التي بدأت بأبوجا.. واستمرت لسنوات، ولكن الحركة الشعبية نفسها قد آمنت آخر النهار بأن السياسة وليس البندقية هي الحل.. وهو ما أمن عليه وقبله بل حض عليه حلفاء وداعمو الحركة في الخارج، واستسلم له حلفاؤها من أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي في الداخل الذي لم يكن جزءاً من عمليات السلام في أبوجا أو نيفاشا.. فقد كانت الحركة تلعب لصالح أوراقها ومصالحها ومصالح داعميها من المجتمع الدولي لا غير.. وهي التي تدرس ذلك وتقرره وفق حسابات بعينها.
فالمفاوضات في نيفاشا الكينية بدأت منذ عام 2002م، ومن موجهاتها مقررات أسمرا المصيرية 1995م التي اعتمدها التجمع الوطني الديمقراطي، واشتملت على مبدأ الاستفتاء على الوحدة أو الانفصال، وأضيف إليه في نيفاشا بند العمل في الفترة الانتقالية – وهي ست سنوات – على أن تكون الوحدة جاذبة. وهو ما لم يحدث بعد رحيل العقيد “قرنق”، وصار الأمر كله في يد من عرفوا بأولاد “قرنق”.. وهم أولاد القطب الأمريكي ومصالحه كما طغى على السطح بعد ذلك.. وإلى الآن..!
لقد أنهى اتفاق نيفاشا يناير 2005م الحرب، وتلك حسنته الأولى، غير أن الولايات المتحدة الأمريكية من خلال بعض منسوبيها ومستشاريها، ظلت تحرص على اللعب لأهدافها وأوراقها عبر ما تجد من ثغرات في تنفيذ الاتفاق وبروتوكولاته هنا وهناك.. وأخطر ذلك ملف (أبيي) الذي تتداخل به الإدارة الأمريكية الحالية – إدارة الرئيس “أوباما” – التي بعثت لها مؤخراً ممثلاً دبلوماسياً حرك المياه الراكدة بتعاطيه بملف أبيي والاستفتاء فيه، وهو الذي كان قد وصل البلاد لتوه فأقام ذلك الدنيا عليه ولم يقعدها.. حتى وصل الأمر إلى العلاقة بين جمهورية السودان والولايات المتحدة وهي بطبعها متوترة. ومما يبدو ظاهراً للعيان هنا هو أن الإدارة الأمريكية وقد بدا لها واضحاً – بعد زيارة الرئيس “سلفا” الأخيرة وما نتج عنها – أن الأمور بين البلدين قد صارت على ما يرام، ولم يبق غير ملف أبيي والاستفتاء. هنا جاء الأمريكيون بممثلهم الدبلوماسي ليحققوا بعض ما فاتهم من اللجوء إلى السياسة عوضاً عن البندقية، لا سيما وأن دولة الجنوب وهي تدخل عامها الثالث أكثر حرصاً على إدارة مصالحها ومنافعها بنفسها، كما جاء في مخرجات زيارة الرئيس “سلفا” ولقائه الرئيس “البشير” مؤخراً.
ونأتي إلى العلاقات بين السودان والولايات المتحدة الأمريكية، وهي على غير ما يرام منذ 1983م، عام إعلان قوانين سبتمبر الإسلامية وإلى اليوم، فنقول إن تصريحات وإفادات وزير الخارجية السودانية الأستاذ “علي كرتي” وغيره من المسؤولين في هذا الصدد، لم تكن غير تعبير عن الواقع الذي لم يتغير والدولة تحقق السلام وتنهي الحرب طويلة الأمد في جنوب السودان.. وتذهب في تحقيق وتنفيذ اتفاق السلام وبروتوكولاته إلى إعطاء الجنوب حق الانفصال وتأسيس دولة خاصة به.
إن الإدارة الأمريكية، جمهورية كانت أو ديمقراطية، لها سياسة وعلاقات خارجية تلعب فيها على مصالحها ومنافعها لا غير. فليفعل الآخرون ممن صنفوا أعداء أو غير مرغوب فيهم ما يفعلوا من خير وإنجاز طيب.. فلا جزرة أو كلمة طيبة، وإنما عصى ووسائل ضغط لا غير.
ثلاثون عاماً من الضغوط والمقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية لجمهورية السودان عبر حكوماتها المختلفة، تعني أن للولايات المتحدة الأمريكية أهدافاً ومصالح بعينها إن لم تتحقق فهي في حالة عداء.
وحسناً فعلت حكومة الإنقاذ الوطني أن أدارت ظهرها للقطب الأمريكي وبحثت عن بدائل في المجتمع، بالتركيز أكثر على المجتمع الإقليمي العربي والأفريقي. فالسودان اليوم محل تقدير واحترام من الكثيرين في تلك المجتمعات، إذ حقق عبرهم ما لم تستطع تحقيقه حكومات أخرى سابقة. ووجد من المساندة الخارجية من الدول الحليفة والصديقة ما جعله يصمد أمام تحديات ومؤامرات الآخرين.
فما يجدر ذكره هنا تحديداً هو تحريك الموارد الاقتصادية والاستثمارية والتنموية رغم الضغوط والمقاطعات..ثم الوقوف أمام تحدي ادعاءات المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس السوداني “عمر البشير”، الذي لا يقصف خصومه بطائرات بدون طيار.. ولا يجعل لجنوده في الخارج حماية من صلاحيات الجنائية الدولية التي صار لها في نشاطها (خيار وفقوس..!).
الإدارة الأمريكية الحالية ومن تليها ليس لديهما الكثير مما تلعبان به لصالحهما في دولة كجمهورية السودان، صمدت لسنوات وجعلت لها بدائل وتحوطات أجهضت بها ذلك كله.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية