معامل التحاليل الطبية.. مخالفات تحت المجهر!
حاولنا البحث في الملف ووضعه تحت (المجهر) لنصطدم بواقع أكثر إيلاماً.. معامل تخالف النظم واللوائح الرسمية في كل شيء، أجهزة ومحاليل لا تطابق المواصفات ويجلب بعضها بواسطة تجار الشنطة! مبانٍ أصبحت الآن آيلة للسقوط بينما أعين الرقابة بعيده تماماً لا تكاد ترى شيئاً، عجز كبير وخلل مستمر داخل معامل التحاليل الطبية بولاية الخرطوم أدى إلى تباين نتائج التحاليل ليدفع ثمنها المرضى خصماً على صحتهم.. الأطباء الذين استطلعتهم (المجهر) أكدوا أنهم لا يثقون البتة في نتائج الفحوصات المعملية الآن.. محاولاتنا وضع جملة المخالفات التي تعاني منها المعامل فوق طاولة مدير (المعمل القومي) لم تفلح بسبب تهرب الإدارة في الرد على طلب (المجهر) بوضوح!
للإلمام بتفاصيل أدق حول الملف كان لزاماً علينا رصد طريقة العمل داخل بعض المعامل بوسط الخرطوم، حيث توقعنا نشاط الأجهزة الرقابية، إلا أننا تفاجأنا لاحقاً بغير ذلك.. اخترنا أن نبدأ من شارع مستشفى الخرطوم حيث يعج المكان بعشرات المعامل.. رصدنا العديد من المخالفات الصارخة، العديد من المعامل تتكدس داخل البناية الواحدة بشكل رأسي وتخطت البنايات إلى أسطحها، أما أفقياً فقد (حشيت) بها الأزقة والشوارع الضيقة بصورة جعلتها (تتخانق) لتقاوم البقاء ليشترك غالبها في العشوائية والفوضى، ورغم كثرتها إلا أنه لا وجود لمقلب أوساخ للتخلص من النفايات الطبية بجانب قذارة عارمة في دورات المياه الملحقة، ففي إحدى البنايات الواقعة في الشارع الشمالي الشرقي لـ(مشرحة الخرطوم) وجدنا أن عدد ثلاثة معامل وعيادتين تشترك في دورة مياه واحدة!
غالبية العاملين بتلك المواقع غير ملتزمين بارتداء القفازات الطبية، فضلاً عن أن بعض المعامل كتب على لوحاتها أسماء اختصاصيي تحاليل طبية، في حين أن العاملين بها في الغالب هم فنيون وتقنيون طبيون، كما أن إبراز رخصة المعمل أو شهادات العاملين قلما تجدها في هذه المعامل. أما البيئة من ناحية التهيئة وتجهيزها بأماكن جلوس وانتظار للمرضى، فهو أمر قلما شاهدناه بهذه المعامل، بل وأن أحد المعامل الموجودة بشارع الدكاترة بأم درمان هو عبارة عن ممر يفصل بينه وعيادة ستارة من القماش، وبه جهاز فحص واحد وآخر معطل بدليل كمية الأتربة المتراكمة بداخله!
معمل آخر في مبنى قديم بالقرب من مستشفى (أم درمان) يقع خلف مطعم فول غالباً ما يستغل زبائن المطعم (بنشات) وكراسي المرضى لتناول الطعام، أما رائحة المعمل فهي مزيج ما بين البصل والفول و(السبيرتو) والدم والعينات الأخرى. ملاحظة أخرى رصدناها وهي تراكم علب العينات المستعملة داخل المعامل الطبية، وبسؤالنا لأحد الفنيين عنها، أشار إلى أنهم يعيدون استعمالها مجدداً بعد تعقيمها!
وبينما ما يزال الحديث عن الأخطاء الطبية يتسيِّد المجالس ويسيطر على مجتمعات النقاش، تطل أزمة أخطاء الفحص المعملي برأسها مجدداً، ورغم أن إصدار التقرير الطبي أو التشخيص السليم للمريض ومعرفة المرض لوصف الدواء المناسب يعتمد بشكل كلي على الفحص المعملي، إلا أن المريض يقع في دائرة من الشك بسبب تضارب وتباين نتائج التحاليل، وإذا أراد المريض إجراء تحليل في أكثر من معمل يفاجأ بنتيجة مختلفة تماماً عن الأخرى، وهنا أكد أطباء لـ(المجهر) أنهم يلجأون أحياناً إلى وصف العلاج للمرضى دون الاعتماد الكلي على ما تعتمده المعامل، وربما يلجأون إلى تصور خطة تقريبية للنتائج المعملية!.
هناك أنواع مختلفة من التحاليل الطبية التي يمكن تقسيمها إلى أكثر من تخصص من بينها تخصص الكيمياء وتحاليل الدم والأنسجة الدقيقة وتحاليل أخرى متفرعة ومختلفة، إلا أن الأصل في تسجيل التخصص. وعلى كثرة التخصصات تتعدد في ذات الاتجاه المعامل والمختبرات الطبية أيضاً، وفي السابق كان مجلس المهن الطبية والصحية يسعى بالتنسيق مع إدارة المعامل بوزارة الصحة إلى أن تلتزم المعامل باستخراج التصاديق السليمة وفقاً لمعايير مختلفة أهمها توفر عدد من الاختصاصيين من خريجي كليات الطب قسم المختبرات الطبية بجانب عدد من الشروط الفنية.
أين الجودة؟
الدكتور «فيصل التجاني حاج إبراهيم» المدير العام لمركز (أدفانس للتدريب) وهو المركز الوحيد بالسودان المتخصص في تأهيل خريجي المختبرات الطبية لنيل زمالة البورد الأمريكي بالسودان، أكد في سياق حديثه لـ(المجهر) من ناحية تطبيق معايير الجودة العالمية، أنه لا يوجد معمل بالسودان حاصل على شهادة جودة عالمية ومعتمدة اعتماداً عالمياً، إذ أن الجودة العالمية يتم الحصول عليها عن طريق تنفيذ بعض الشروط التي تضعها (منظمة الصحة العالمية) للمعامل تشمل حوالي (12) ، جزء منها مواصفات السلامة والجودة وسلامة المريض والاختصاصي والفني. ورغم أن عدداً كبيراً من دول الجوار تحرص على تأهيل معاملها بالحصول على شهادات جودة عالمية، إلا أن السودان بعيد كل البعد عن التنفيذ والحصول على الاعتماد العالمي لعدة أسباب من بينها أن برامج الاعتماد العالمية تتم عبر منظمات صحة عالمية وأمريكية وتحتاج إلى دعم مالي كبير، وببرامج محددة مثل (برامج مكافحة الايدز) و(المخدرات)، ولكن الحصار الاقتصادي على السودان حال دون دعم هذه المنظمات داخلياً كما حدث في مثل تلك الدول، فمصر مثلاً وعبر عدد من المعامل مثل (المختبر) و(البرج) تنافست من أجل الحصول على شهادة الجودة العالمية وتنفيذ البنود والمواصفات التي جعلت من معاملها ومختبراتها معامل عالمية ذات أربعة أو خمسة نجوم.
ورغم المحاولات التي اتجهت لها بعض المعامل الخاصة الآن في السودان بعدما أدركت مؤخراً أهمية الحصول على شهادات جودة عالمية، إلا أنه لم يتم إلى الآن البدء في تنفيذ شهادات الجودة والتي تمنح عادة عبر مفتش منتدب من أقرب مركز إقليمي، وبعد أن تتم الزيارة الميدانية للمعامل يطلب المندوب عدداً من الشروط التي يتم الاتفاق على تنفيذها خلال فترة زمنية محددة، وبعد أن يتم التأكد من جودة المعمل يتم منحه شهادة جودة عالمية بذلك.
دعوة لرقابة عشوائية
البروفيسور «علي عبد الستار» اختصاصي علم الأنسجة الدقيقة ومدير معمل تحاليل طبية يحمل اسمه قال إن تحاليل الأنسجة الدقيقة مثلاً يعتمد بنسبة كبيرة في إجرائه على الاستخدام اليدوي لا الآلي وإنها غالباً ما تكون للأورام وما يستخرج من الجسم البشري (اللحم والعظم) والجزء الأكبر منها للأورام الحميدة والخبيثة، وإن إجراء هذه التحاليل عادة ما يتميز بحاجته إلى الدقة المتناهية في إصدار النتائج وذلك لأن فحص العينة يتم عبر عدة مراحل، وأن اختصاصي التحاليل عادة ما يرفق النتيجة بتقرير تحليلي باستخدام عبارات طبية مختلفة، أما التحاليل المعملية الأخرى مثل تحاليل الدم والسكر وبعض الأمراض فتعتمد في استخراجها على جودة الجهاز والمحلول بصورة كبيرة. وفي ما يختص بجانب الرقابة على المعامل فقد أشار البروفيسور «علي عبد الستار» إلى أن هنالك تيماً من إدارة المعامل بوزارة الصحة زار المعمل في مبناه السابق وطلب منه بعض الملاحظات اللازمة للمبنى، إلا أنه طالب أن تتم تلك الزيارات الميدانية بصورة عشوائية وغير منتظمة وأن تكون أكثر دقة.
ضعف التدريب وفوضى المحاليل
من خلال ما رصدناه خلال جولتنا بعدد كبير من المعامل تأكد لنا أن اتجاه البعض لإنشاء معامل للتحاليل الطبية لا يعدو كونه أحد المشاريع الاستثمارية الهدف الرئيس منها هو الكسب المادي، وقد أكد لنا عدد من المختصين الذين التقيناهم أهمية التأكد من جودة الجهاز المستخدم في التحليل الكيميائي من خلال وجود عينة (الكنترول)، وهي العينة الأساسية وتكون معروفة النتيجة، ويتم من خلالها التأكد من جودة وكفاءة الجهاز باستخدام شريحة طبية معينة قبل البدء في إجراء التحليل الطبي، إلا أن الواقع يؤكد أن أكثر من (90%) من المعامل الآن لا تستخدم هذه الشريحة توفيراً للمبلغ اللازم لشرائها وهو حوالي خمسمائة إلى سبعمائة جنيه تقريباً.
وقال اختصاصي في علم الأنسجة الدقيقة إن مجلس المهن الطبية والمعمل القومي (إستاك) وإدارة المعامل بوزارة الصحة توقفت عن دعم وتأهيل الطلاب واختصاصي التحاليل الطبية عكس ما كان يحدث في السابق، كذلك استخدام المحاليل الطبية مختلفة الصنع والمصدر والسعر المالي وللأسف لا يتم التركيز غالباً على الجودة بقدر ما يتم التركيز على السعر فقط.
من المحرر
حاولنا وضع الملف برمته أمام مدير (المعمل القومي) (إستاك) بعدما دفعنا إلى مكتبه بخطاب يحوي طلبنا، إلا أن تجاهلاً مُورس في الرد عليه، مما اضطرنا إلى الدفع بطلب آخر إلى إدارة الإعلام بوزارة الصحة الاتحادية التي حولتنا بدورها إلى إدارة المعامل بالوزارة، وحينها فهمنا أن ما يسمى (ببرتكول) المعامل هو الآن في حالة انعدام. حاولنا الحصول على أية لائحة أو (برتوكول) يحكم عمل المعامل داخل أو خارج ولاية الخرطوم ورغم جلوسنا إلى مدير (إدارة الطب العلاجي) بوزارة الصحة، إلا أننا لم نتمكن من الحصول على أية معلومات تخص هذا الملف، وتمت إفادتنا بعدم وجود بروتكول علاجي يحكم عمل المعامل، وأنهم الآن بصدد إعداده ليكتمل بهذا المشهد الفوضوي العمل بالمختبرات الطبية ونترك هنا مساحة للقارئ الكريم ليضع النهايات بنفسه!