أخبار

"أوبرا" في الخرطوم!

} تمكنت بجرأتها الزائدة وذكائها المتقد، من ابتكار (برنامج إنساني) من صميم المجتمع الأمريكي.. بقدر ما احتفى بإيجابياته عرَّى بصراحةٍ متناهيةٍ سلبيات.. وغاص عميقاً في تركيبة الشخصية الأمريكية بتناقضاتها وإشكالاتها، دونما خوف من كسر حاجز (المسكوت عنه) أو الاقتراب من الممنوع والخطوط الحمراء !!
} صحيح أن طريقة “أوبرا وينفري” في بعض الأحايين، يمكن الاختلاف معها في جانب التركيز على (الإثارة المفرطة)، التي قد لا تحمل قيمة إنسانية واضحة، أو مغزى وجودياً بعيداً.. لكن البرنامج في مجمله ظل يمتلك قدراً من الدهشة التي تُمثل ركيزة مهمة في أي عمل إبداعي.. وتمتلك” أوبرا “القدرة على الجذب والاستقطاب، بعيداً عن رتابة الإيقاع والقوالب النمطية الجاهزة .
} الجرأة قد تقترب أحياناً من حدٍ (سافر وخادش)، وربما (مستهجن)، لكنها كغيرها من المفردات تختلف درجات تَقبُلها من مجتمع إلى آخر.. ولا أعتقد أن “أوبرا” يمكن أن تناقش موضوعاتها من داخل مجتمعاتنا العربية.. فستجد رفضاً قاطعاً.. بل ستفشل في إيجاد (شرائح) يمكن أن تُقدم ذات الاعترافات التي دأب على البوح بها ضيوفها في أمريكا. لكن الغريب في الأمر أن هذه (المجتمعات المحافظة) تُشاهد بِنَهَم ما تقدمه” أوبرا”، الذي يُبث من أمريكا عبر الأقمار الصناعية، وتتفاعل مع قضايا وشخوص برنامج” أوبرا” ولا تُخفي الإعجاب بها والتأكيد على أهمية وخطورة ما تطرحه من موضوعات. وهنا تكمن المفارقة المدهشة وتتكشف (الازدواجية) التي ربما ظلت ترتبط بذائقة منطقتنا، المُوغِلةُ في سياسة التكتُم والتحفظ وتضخيم مساحات (المسكوت عنه).
} ليس هناك نماذج كثيرة في منطقتنا لبرامج تتجاوز سقف المسموح به، الذي هو أدنى بكثير مقارنةً ببرامج تُقدّم في دول غربية.. وما يُؤخذ على هذه النماذج على قلتها العزف على أوتار مكرورة لا تتجاوز مربع (التحرش والانحراف والعجز الجنسي)، وكأنما الهاجس الأوحد لإنسان هذه المنطقة محتجز في هذا المربع الضيق، في حين أن برامج (التوك شو)، تهمل مساحات أخرى تحتاج لذات الجرأة والصراحة والتغلغل داخل الذات الإنسانية، والبحث الجاد في طبيعة العلاقة بينها وبين محيطها القريب والآخر البعيد!!
} ليست (الرقابة) وحدها التي تحول دون تكريس نماذج إعلامية أكثر تفاعلاً في مجتمعاتنا، ولكن (الاستسهال) والتقليد والمحاكاة، وعدم القدرة على الخلق والابتكار ومحدودية الخيال، كلها أمور أفضت إلى هذه التراجعات، أو حتى الوقوف في ذات الحد الذي وصلنا إليه.
} والمزعج أن بعض الذين حاولوا الخروج عن المألوف المحلي تقليداً للنموذج المستورد، فعلوا ذلك إما باستحياء خجول أو بطريقة مشوهة ومختلة من الناحية المهنية.
} هذه المقاربات ليست من باب الاحتفاء بـ “أوبرا” وبرنامجها الشهير – وهي كما أوردت صحف الأمس يتوقع لها أن تزور الخرطوم لمؤازرة متضرري السيول والأمطار – وإن كانت تستحق ذلك، وإنما كانت مناسبة لإجراء بعض المراجعات في شكل ومحتوى (الخطاب الإعلامي) الذي تنتهجه المنطقة، التي آن لها الخروج عن عباءة التقليد من جهة، وتجاوز الحدود الضيقة من جهةٍ ثانية، وصولاً لأطروحاتٍ تفاعلية ومؤثرة تتسم بالجرأة المطلوبة، التي تراعي القيم والثوابت، ولكنها في ذات الوقت تُسْقط الأقنعة الكثيرة التي ظلت على وجوه المشهد بكامله، وتقدم الإجابة المنطقية للأسئلة الإشكالية، التي ظلت تُطرح على نحوٍ خجول ومتكلف ومرتبك!!
< ثم ماذا بعد؟!
} هل بمقدور إعلامنا المرئي أن يحتمل (النسخة السودانية) من “أوبرا” الأمريكية في ظل (الموجة البرلمانية)، التي تنهمك بضراوة في حملات التشهير بالإعلاميين والإعلاميات.. ودعوة البعض لتكتيم الأفواه وممارسة المزيد من التعتيم وعدم الاقتراب من (المناطق الحساسة) وقطع الطريق أمام التبشير بثقافة نقد الذات وأدب الاعتراف؟!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية