الجديد في لقاء «المهدي» و«البشير»
ظل السودان بعد إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، لا يعرف غير الصراع على السلطة – الاستئثار بها أو القبض عليها – كيفما كان الحال والثمن. وقد بدأ ذلك في 1958م بالخلاف بين الزعيمين الأميرلاي “عبد الله خليل” الزعيم النافذ في حزب الأمة، والشيخ “علي عبد الرحمن” القطب الاتحادي، الأمر الذي انتهى بتسليم السلطة للفريق “عبود” كما تقول الوقائع.
وبعد نجاح ثورة أكتوبر 1964م بدأ الصراع على السلطة والنفوذ داخل أكبر الأحزاب الوطنية، وهو حزب الأمة. إذ بدأ الخلاف بين “الهادي المهدي” إمام الأنصار وزعيم الحزب، وحفيده الناشئ يومئذ “الصادق المهدي” تحت مسمى وشعار العزل بين (القداسة والسياسية)، وهو ما أسفرت الأيام عن أنه لم يكن سوى صراع على النفوذ وليس المبادئ، حيث أن الحفيد جمع الاثنتين في وقت لاحق لضرورات السياسية.
وإن ينسى المرء هنا بعد ثورة رجب – أبريل على نظام المشير “نميري”، لا ينسى (تفاهمات الجنتلمان) بين زعيمي حزب الأمة القومي الحاكم والحزب الاتحادي – الحزب الثاني في الحجم البرلماني والسياسي، على قسمة السلطة والشراكة في الحكم.
وعندما كان التغيير في الثلاثين من يونيو 1989م، كان تجمع المعارضة في الخارج – المعروف بالتجمع الوطني الديمقراطي – يقوم بالجائز والمستحيل في سبيل إسقاط النظام أو زعزعة استقراره. فسلمت أحزاب المعارضة يومئذ (دقنها) للحركة الشعبية لتحرير السودان وزعيمها العقيد “جون قرنق دي مبيور”، الذي كان قد باعها وهو يخوض جولات التفاوض حول السلام مع الحكومة..!
على أن ما يجدر ذكره هنا هو ما يتابعه تاريخاً وتوثيقاً الصحفي النابه “الكرنكي” هذه الأيام في زاويته بصحيفة (الانتباهة)، وهو قصف إدارة الرئيس “كلينتون” لمصنع الشفاء للدواء بالخرطوم بحري في 30 أغسطس 1998م بصواريخ (كروز)، تبعاً لمعلومات صدرت من زعامات معارضة، حسب ما صدر في الصحافة الخارجية في ذلك الوقت.
وبعد السلام في 2005م والانفصال بين الجنوب والشمال في 2011م وظهور حركات التمرد في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.. كان ما عرف بتجمع أحزاب جوبا، وبقوى الإجماع الوطني، وكلها تعنى بمعارضة النظام والإصرار على إسقاطه في مدى (مائة يوماً) لا أكثر..!
وما يجدر ذكره في هذا السياق هو ما قام به ويقوم حزب المؤتمر الشعبي الذي كان جزءاً أصيلاً في المؤتمر الوطني (قيادة وعضوية ومبادئ وأهدافاً)، إلا أن الانشقاق والانقسام ألقى به في (دوامة المعارضة)، لينهج نهجها، وربما يتفوق عليها في بعض الأحيان، ويجعل منها أقرب إليه من غيرها.
إن المعارضة في كل العالم هي (حكومة الظل)، ولا بد منها لأنها تعيد التوازن للنظام الحاكم وتذكر دوماً بالأخطاء، وبأن الحاكم ليس من يظل على الكرسي على الدوام، وإنما هناك بدائل ومتغيرات.. ومن يحل محله وفق الإجراءات الدستورية.. بيد أننا في السودان – حكومة ومعارضة ومنظمات مجتمع مدني – لا نعرف الإجماع على أسس ومبادئ قومية تحكم الجميع وتقيد حركتهم، شأن الحال في بلاد أخرى.
ولعل لقاء “المهدي” والرئيس “البشير” – رئيس حزب المؤتمر الوطني – برفقة أحد رموز الحزب في دار “المهدي” الأسبوع الماضي، مؤشر خير وبركة وفاتحة نافذة جديدة في الأدب والحراك السياسي السوداني لم تكن مألوفة أو معروفة قبل الاتفاق على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان كما حدث في 19 ديسمبر 1955م.
ولذلك دلالاته بطبيعة الحال:
} فأن يذهب السيد الرئيس إلى “المهدي” في داره، فهو مؤشر تواضع واحترام للمهمة وللسيد رمز الحزب وزعيمه.
} ثم أن تكون بداية الحوار مع أكبر الاحزاب السياسية فيه إشارة لأحزاب المعارضة الأخرى بأن تدخل في السياق.. وإلا ضعفت وهزلت..!!
} وربما أكثر إثارة للفكر والخيال هنا هو ما تم الاتفاق عليه وهو كثير وله موقعه.
فما هي أجواء اللقاء أو العشاء، وما هو الذي جرى وتم بعد ذلك؟
أما عن الأجواء فقد عبر عنها السيد “المهدي” بقوله إن اجتماعه بـ “البشير” في داره – أي دار “المهدي” – ظاهرة لا تحدث إلا في السودان، وتؤكد تسامح السودانيين وقبولهم للآخر.
وفي هذا بتقديرنا مؤشر تسامح وعفو عن الماضي، كبيرين، ويعني أن ما هو قادم أكثر، لا سيما أن السيد الإمام نوه إلى أن الاتصالات اللازمة ستجرى لإبرام الاتفاقيات المنشودة بمشاركة أجهزة الحزبين المعنية باعتبار أن المسائل – هكذا قال “المهدي” – لا تكون فوقية، إنما بمشاركة الأجهزة الديمقراطية.
ومن الجانب الآخر قال “البشير”:
} إن اللقاء كان مثمراً وجاداً وتطرق لقضايا وطنية واقليمية.
غير أن إفادة السيد “الصادق” بالاتفاق على أن تكون قضايا الحكم والدستور والسلام قضايا قومية، ينبغي ألا تعزل أحداً ولا يسيطر عليها أحد، ستكون محل اهتمام ونظر الجميع، فهي قضايا لها مكانها، وكان ينبغي أن يتفق عليها منذ وقت بعيد لتنأى بالبلاد عن عدم الاستقرار.
وما لا يقل إثارة للاهتمام في لقاء الزعيمين، هو البعد الاقليمي في ما دار بينهما. والإشارة هنا إلى جمهورية مصر العربية وما يجري فيها من اضطرابات وعدم استقرار. فاللقاء لم يقتصر على الوطني والداخل فحسب، وإنما تطرق إلى الموضوع المصري. فكان القرار هو قيام السودان بدور أخوي يجنب مصر سفك الدماء ويكفل الحريات والديمقراطية.
لقد عُلق الأمر على مشاركة أجهزة الحزبين لوضعه مع التنفيذ والاتفاق التام، وهذا جيد ولا غبار عليه، سيما أن أحد الحزبين يشكو (ململة) في هذا الاتجاه.. ولكنه اتجاه عملي وموضوعي.. ومن المفترض أن ننتظر حراك الآخرين وقراءاتهم لما حدث في إطار ما وصفه به الطرفان من أنه (ظاهرة) لا تحدث إلا في السودان، كما قال “المهدي”، وكان مثمراً وجاداً كما قال الرئيس “البشير”.
إن الحديث يدور هذه الأيام عن لقاء محتمل بين الدكتور “الترابي” الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي، والرئيس “البشير” زعيم حزب المؤتمر الوطني. وهو احتمال ليس بالبعيد في ظل التطورات المحلية والإقليمية. فالحديث عن “أبيي” في الداخل وعدم إشراك المسيرية في الاستفتاء المرتقب، وهم مواطنون لهم وجودهم في المنطقة منذ مئات السنين، يدعو إلى التضافر والتضامن.. وما يحدث في جمهورية مصر العربية هو الآخر له دوره في أن تلتئم اللحمة.
ونزيد على ذلك ما تم في لقاء بيت “المهدي” بين السيد الرئيس “البشير” وصاحب الدار “الصادق المهدي” رئيس حزب الأمة القومي، الذي له وزنه في تجمع المعارضة وفي الحكم، إذا كان ذلك من مخرجات لقاء الزعيمين.
الأمر يحتاج من الدكتور “الترابي” – والحال كذلك – قراءة متأنية وموضوعية لا يُوصى بها الشيخ. وربما كان ذلك هو ديدن آخرين كالحزب الشيوعي السوداني والحركات المتمردة. ذلك أن في الأمر مستجدات ومتغيرات يعرفونها قبل غيرهم. لا سيما وأن تلك المتغيرات والمستجدات قد أدركت دولة جنوب السودان التي ربما لا تصبح مقراً أو ممراً أو سنداً لقوى الإجماع الوطني.
إن هناك جديداً في اللقاء او العشاء الذي تم الأسبوع الماضي في دار السيد “المهدي” بأم درمان بين زعيمي حزب الأمة القومي وحزب المؤتمر الوطني.. وهو ما لا يمكن أن يفوت على ذاكرة أي باحث أو محلل سياسي – والله أعلم.