أخبار

جدير بالاحترام!

} قد تستطيع ترويض الأسود والنمور.. وتصادق الثعابين والأفاعي.. وترافق الأشرار والمعتوهين.. لكن هيهات أن تغير في أقدارك حرفاً واحداً.. هكذا هم (القدريون) يمارسون الاستسلام برغبة متناهية ويفوضون أمورهم للما ورائيات والميتافيزيقيا، ويؤكدون في كل يوم أن هناك عوالم خفية هي التي تتحكم في معظم إن لم تكن كل مسارات الحياة، وتكتب البدايات والنهايات وتأتي بالمفاجئ والمباغت والغريب والعجيب!!
} ليس ضعفاً على الاطلاق أن تؤمن بمساحات هي لك ولكن لا تملك من أمرها شيئاً.. وأن تمشي خطى كتبت عليك فربما كان ذلك ايذاناً ببدايات جديدة ونهايات أفضل.. وليس من المعقول أن ترسم خارطة حياتك في مخيلتك وتتوقع أن تجدها لاحقاً كما هي على الواقع دون إضافة أو حذف أو تعديل، فالواقع يفرض شروطه دائماً والمقدمات قد لا تقود دائماً إلى ذات النتائج هكذا هي المعادلة كما تؤشر الوقائع بالنسبة لي على الأقل.
} توقفت عن الكتابة الراتبة في الصحف كان آخر مقال كتبته منذ أكثر من عامين يحمل عنوان (بين أبي وابني)، أطلقت من خلاله بوحاً خاصاً عن معاناة أبي في المستشفى وكيف أنه كان لآخر لحظة متشبثاً بالحياة وهو في ذروة احتضاره يذكرني بأن ذاك اليوم هو توقيت إعلان نتائج مرحلة الأساس ويسألني باهتمام بالغ: كم أحرز ابني “شهاب”.. ويضيف: سينجح كعادته بتفوق.. (شهاب ده ولد نجيب، يلا يا “خالد” اتصل أعرف النتيجة).. ياه.. كم أنت نبيل يا أبي.. انشغالي بك أنساني إعلان نتيجة مرحلة الأساس لكنك لم تنسِ حفيدك “شهاب” الذي تحبه وتوقد لأجله شموع الفرح في قمة معايشتك لطقوس الموت.. ما هي إلا لحظات إلا وجاءني (صوت الهاتف)، وقبل أن أرد عليه قال لي أبي: ألم أقل لك إن “شهاب” سينجح بتفوق وسيحمل لك الخبر السعيد.. كان بالفعل من يهاتفني “شهاب” الذي كان عاتباً لعدم سؤالي عن نتيجة الامتحان.. قلت له (آسف يا “شهاب” بس أنت عارف أنو أنا قاعد في المستشفى مع جدو.. وبعدين أنا واثق إنك ناجح ناجح.. قاطعني: (أيوه يا بابا ناجح والحمد لله بس قول لجدو نحن ما حنعمل الحفلة إلا بعد طلوعك من المستشفى).. ابتسمت وقد أدمعت عيناي وأنا أرقب والدي طريح الفراش ينتظرني بلهفة لأؤكد له صدق إحساسه بنجاح “شهاب”، قلت له: (شهاب قال ما بحتفل بنجاحه إلا بعد خروجك من المستشفى يلا يا أبوي شد حيلك وقوم بالسلامة).
} باغتني أمل للحظة بأن والدي الممتلئ بفرح نجاح حفيده اكتسب مناعة جديدة في تلك اللحظة وأصبح أكثر قوة في مواجهة الموت، ولكن الأجل المحتوم لا يتأخر أو يتقدم… بعدها بأيام قلائل فارق أبي الحياة بعد أن رسم في فضاء المستشفى لوحته الأخيرة.. (لوحة الجد والأب والابن) وأودع سر المحبة الخالدة بين (أبي وابني)، وكان آخر مقال كتبته وبعدها خاصمت الكتابة ليس حداداً على أبي فحسب وإنما أيضاً لقناعة حاصرتني بأن أقلامنا لن تغير شيئاً في مصائرنا ومصائر من نحب!
} هل نجحت أخيراً يا ترى في الخروج من هذا الحصار؟.. وهل بوسع أقلامنا أن تكتب لغيرنا الحياة مجدداً؟.. عودتني التجربة أن لا أستبق النتائج.. ولأنني (قدري) إلى حد مدهش سأعاود الكتابة الراتبة مجدداً دون رهان مسبق هذه المرة تاركاً للتجربة حرية التداعي وللأقدار أن تأخذني حيثما شاءت، فما عاد عندي ما أخسره بعدما فقدت أنبل إنسان عرفته هو (أبي) له الرحمة الذي لم أجرؤ على نعيه ورثائه كتابة حتى الآن رغم أنني أعرف ما لو عرفه الآخرون عنه لجعلوه ممن يحتفي بهم تاريخ هذا البلد، حيث لم يكن معلماً للغة الانجليزية وموجهاً تربوياً ومديراً لإدارات التعليم فحسب، وإنما كان أيضاً قائداً لحراك اجتماعي وإنساني في الداخل والخارج وساعياً حثيثاً لتطوير مناهج التفكير والسلوك والأخذ بسبل التقدم والازدهار.
} كان (أبي) يحبني قارئاً وكاتباً ومحاوراً تلفزيونياً ويقول لي ما تفعله يستحق الاحترام.. فقط لا تفعل شيئاً في حياتك لا يستحق الاحترام.. ولأنك يا أبي جدير بالاحترام سأظل ملتزماً بما تحب.. وها أنا أعود للكتابة مجدداً.. كم سأفتقد نقدك وملاحظاتك وربما تشجيعك ومساندتك.. غير أن عزائي هو أن أظل أفعل ما تحب وأكتب ما أظن أنه جدير بالاحترام!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية