الربيع العربي عامان مضيا ولم تكتمل بعد (11)
في العامين المنصرمين شهدت الساحة العربية أحداثاً عاصفة على الصعيد السياسي، أفرزت ما أصبح يُعرف بثورات الربيع العربي الذي جاء نتاجاً لتحرك الشارع العربي في شكل ثورات شعبية عاصفة وقوية ومباغتة، لم تشهد لها الساحة العربية مثيلاً في الماضي القريب ولعقود خلت. فكانت الانطلاقة من تونس ما عُرف بثورة البوعزيزي أو ثورة الياسمين، ثم انتقلت الثورة إلى ميدان التحرير في مصر، ومنها إلى أحرار ليبيا، ثم اليمن وسوريا في انتقال سريع عمل على اقتلاع الحكومات القائمة في أغلب هذه البلدان.. ومن أسباب هذا التحرك، ثلاثية الاستبداد والفساد والتبعية التي تميزت بها أنظمة الحكم في بلدان الربيع العربي. أنتج هذا الحراك تياراً تغيرياً حديثاً ذا جذور شعبية يواجه اليوم مجموعة من التحديات والفرص. يستعرض هذا البحث من خلال الدراسة والتحليل الفرص والتحديات التي تواجه الديمقراطيات الجديدة في المنطقة، ويحاول أن يستقرئ مستقبل المنطقة على ضوء المتغيرات التي حدثت فيها.
{ المحور الأول: المنطقة العربية قبل ثورات الربيع العربي
انتهت الدولة العثمانية بصفتها السياسية، بتاريخ الأول من نوفمبر 1922م، وأُزيلت بوصفها دولة قائمة بحكم القانون في 24 يوليو 1923م بعد توقيعها على معاهدة لوزان، وزالت نهائياً في 29 أكتوبر من نفس العام عند قيام الجمهورية التركية، التي تعدّ حالياً الوريث الشرعي للدولة العثمانية.
الدول الغربية (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، أسبانيا) تقاسمت أملاك الإمبراطورية العثمانية واستعمرت الدول والشعوب العربية، فكان هذا الاستعمار الغربي سبباً رئيسياً لتسليم فلسطين لليهود بـ(وعد بلفور) 1917م.
مع استمرار الاستعمار الغربي للمنطقة العربية ظهرت الحركات العربية كالقومية، الليبرالية، اليسارية والإسلامية. ورغم الضربات القوية عليها من جانب المستعمر إلا أنها تمكنت من إخراج المستعمر الغربي مخلفاً وراءه إرثاً ثقيلاً اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً، بجانب استمرار احتلال فلسطين من قبل اليهود.
{ تطور النظامين العالمي والإقليمي نحو الديمقراطية
البشرية لم تعد تعيش في جزر معزولة عن بعضها البعض، وذلك بفضل العولمة وثورة الاتصالات الهائلة التي يشهدها عصرنا الحالي.
إن انتهاء عصر الحرب الباردة بزوال الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو وانهيار حائط برلين، أوجد فعلاً نظاماً عالمياً جديداً معالمه الأساسية الديمقراطية، حقوق الإنسان، التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. هذا النظام العالمي الجديد جاء ليحل محل نظام كانت فيه القوتان العظميان تدعمان أنظمة الدكتاتورية وانتهاكات حقوق الإنسان من منظور المصالح دون النظر إلى المبادئ والأخلاق. هذا التحول في النظام العالمي وانهيار جدار برلين حدث عبر ما يسمى بأدوات الدبلوماسية الناعمة.
المنطقة العربية لم تستفد من هذا التحول، لأن الغرب تعامل معها بأنانية شديدة، وقبل باستمرار الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة لخدمة مصالحه وموقفه من الانحياز لإسرائيل، ولم يبذل أي جهد عبر ما يسمى بالدبلوماسية الناعمة لتحدث عملية الإصلاح في المنطقة بشكل سلمي كان يمكن أن يجنب المنطقة أحداث العنف التي جرت أثناء ثورات الربيع العربي، فتعطلت عملية الإصلاح في المنطقة العربية مقارنة بغيرها في الغرب وفي آسيا وأفريقيا.
الربيع العربي فاجأ الغرب كما فاجأتهم الثورة الإسلامية في إيران، والسبب هو أن الغرب لم يكن مستعداً أن يتخيل مصر بدون “مبارك” أو سوريا بدون “الأسد” أو تونس بدون “بن علي”، تماماً كما لم يكن يتخيل إيران بدون الشاه. عندما حدثت الثورة الإسلامية في إيران شكّلت الحكومة البريطانية لجنة لدراسة أسباب الفشل في عدم الاستقراء الصحيح للأوضاع في إيران إلى أن فاجأتهم الثورة. وجاءت نتيجة الدراسة فشل الخيال ((Failure of Imagination إذ لم يكن الغرب مستعداً لتخيل إيران بدون الشاه.
الحرب الباردة انتهت بزوال الاتحاد السوفيتي وانهيار جدار برلين، وبدأ نظام عالمي جديد لم نعد فيه نتحدث عن الحرب الباردة. “جورج بوش” رسم سياسته على أن الغرب مهدد بالإسلام ولا بد من الرد على هذا التهديد عبر حروب في العراق وأفغانستان. ميزانية الولايات المتحدة الدفاعية تعادل (46%) من ميزانية العالم الدفاعية. السؤال الذي يطرح نفسه هل العالم اليوم أكثر أمناً من زمن الحرب الباردة؟ الإجابة قطعاً لا، فالعالم اليوم يشهد تدهوراً في مجال الأمن والمجال السياسي والاقتصادي وفي مجال المناخ، فالعالم اليوم أكثر توتراً من عالم الحرب الباردة رغم محاولات الرئيس “أوباما” للانسحاب من أفغانستان كما أنسحب من العراق والميل إلى الدبلوماسية الناعمة بدلاً عن الدبلوماسية الخشنة.
هل الولايات المتحدة مستعدة للتخلي عند دورها الإمبريالي في العالم؟ أقول نعم ولا.. نعم، لأن الإمبريالية بمعناها السابق لم تعد مقبولة حتى عند الشعب الأمريكي.. ولا، لأنها لن تترك دورها القيادي وحماية مصالحها في العالم. صحيح هي لن تتخلى عن الرهان الأوروبي، ولكن أوروبا نفسها تتراجع، ولم نعد نتحدث عن المارد الأوروبي، بل أصبحنا نتحدث عن المارد الصيني، ونشاهد أمريكا تتجه بقوة نحو آسيا.
المجتمع الدولي الذي تنشده البشرية (مجتمع العدالة والمساواة) ما زال هدفاً ومثالاً لم نبلغه بعد. ورغم الهيمنة الأمريكية فلا أعتقد أننا ما زلنا في عالم أحادي القطبية. صحيح أننا لم نصل بعد إلى مرحلة العالم متعدد الأقطاب إلا أنه يمكن القول إننا في مرحلة العالم المختلط غبر أننا نسير إلى عالم متعدد الأقطاب، فالولايات المتحدة تتراجع اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ولكن ببطء، وهي تقاوم هذا التراجع وأحياناً بافتعال حروب إقليمية وأيديولوجية لحماية مصالحها. رغم أن التجربة دلت على أن الحلول العسكرية تفاقم المشاكل ولا تعالجها، ولكن هذا يحتاج لقناعة الأطراف كافة وليس طرفاً واحداً. الولايات المتحدة مقتنعة بذلك ولكنها تفعل عكسه تماماً، وينطبق عليها المثل الذي يقول (أرى الأفضل وأوافق عليه ولكنني أتبع الأسوأ).
سؤال آخر يطرح نفسه، هل العالم بحاجة إلى الولايات المتحدة وكذلك الشرق الأوسط مع التحولات التي حدثت فيه؟ أقول نعم، وأعتقد أننا بحاجة إلى الولايات المتحدة المنخرطة في تكوين وتطوير المجتمع الدولي الذي ننشده انخراطاً عقلانياً تهتم فيه الولايات المتحدة بمشاكلها ومصالحها، ولكن أيضاً بشراكات وانخراطات لتأمين سير مجتمع دولي متضامن يعيش في أمن وسلام من خلال تحقيق معاني العدالة والمساواة ومراعاة مصالح الجميع وعدم الانحياز الأعمى كما يحدث مع إسرائيل.
{ القضية الفلسطينية واستغلالها من قبل النخب العربية لاستبطاء عملية الإصلاح في المنطقة العربية
شكّل قيام الدولة الإسرائيلية في فلسطين عام 1948م تحدياً أساسياً أمام الشعوب العربية، حيث نشطت القوى السياسية المختلفة في العالم العربي ورفعت رايات متعددة ومختلفة، منها رايات العروبة والوحدة العربية، ورايات اليسار والتحالف مع الاتحاد السوفيتي، بل تبني الفكر الشيوعي باعتباره الفكر الذي تنطلق منه حركات التحرر ومحاربة إسرائيل، وكذلك رايات الإسلام وخاصة ما أطلق عليه الإسلام السياسي، حيث نشطت الجمعيات الإسلامية الداعية إلى الجهاد لتحرير فلسطين، ومن هذه الحركات المهمة حركة الإخوان المسلمين في مصر (بدايتها مع الإمام حسن البنا وحاربها عبد الناصر وظلت صامدة حتى ظهور الربيع العربي). استفادت القوى العروبية واليسارية العربية من علاقاتها الدولية خاصة مع اليسار وعلى رأسه الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي وحلف وارسو الذي كانت لديه سياسة التمدد في العالم لمواجهة حلف الأطلسي الذي تقوده أمريكا وأوروبا الغربية، فتمكنت من تنفيذ عدد من الانقلابات العسكرية كوسيلة مهمة جداً للوصول إلى الحكم لمواجهة الغرب باعتباره الداعم الأكبر لإسرائيل (نذكر من هذه الثورات التي حظيت بتأييد حلف وارسو: ثورة 23 يوليو التي قضت على الملكية في مصر، ثورة عبد الرحمن عارف في العراق، ثورات اليمن وسوريا، ثورة 25 مايو في السودان بقيادة جعفر محمد نميري وثورة الفاتح من سبتمبر الليبية بقيادة معمر القذافي)، بل والثورة الفلسطينية نفسها بقيادة “ياسر عرفات” رغم أنها قامت على مرتكزات الجهاد لتحرير الأرض ولكنها انحازت إلى وارسو باعتباره حلفاً داعماً للقضية الفلسطينية.
الجماهير العربية صبرت على تباطؤ عملية الإصلاح أملاً في أن تتوحد جهود الأمة من أجل تحرير فلسطين، وقبلت بالشعار الذي رفعته الأنظمة الحاكمة شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، الذي اتخذته النخب الحاكمة ذريعة لقمع وضرب كل حركات الإصلاح متهمة إياهم بالعمالة للغرب ولإسرائيل تارة، وبالرجعية وعملاء الإمبريالية تارة أخرى، إلى أن انكشفت خداع هذه الأنظمة بهزيمة يونيو حزيران 1967م، حيث أصيبت الأمة بإحباط شديد وفقدت الثقة في حكامها وفتحت مجالاً أوسع لدعوات التغيير والإصلاح، بينما واجهتها الأنظمة بكل وسائل العنف والسجون والطرد من الأوطان.
جاء في كلمة سمو أمير دولة قطر “الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني” في فاتحة منتدى الدوحة الثالث عشر.. (إن صورة المشهد السياسي الإقليمي لن تكتمل من دون تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، على أن هذا لا يجب أن يكون عائقاً أمام الإصلاحات الديمقراطية والتي يجب أن تستمر في العالم العربي، حيث إن ما كنا نسمعه في الماضي على لسان الدكتاتوريات العربية بأن الإصلاح الداخلي يأتي فقط بعد حل الصراع العربي الإسرائيلي أصبح اليوم تفكيراً فاقداً للأساس بعد ثورات الربيع العربي، وأن هذه المقولات كانت محاولة من الأنظمة البوليسية والأمنية لتبرير وجودها، وأن الإصلاح يمكن إدراكه بالتزامن مع السعي إلى إيجاد تسوية سلمية. لقد كنا نسمع في الماضي بأن الإصلاح ليس أمامه إلا الانتظار حتى تتحقق التسوية السلمية للصراع مع إسرائيل، ولكن ينبغي أن يدرك الجميع بأن مثل هذا التفكير أصبح فاقداً للأساس بعد ثورات الربيع العربي).
{ تحليل
تميز هذا العصر بانتشار حركات القومية العربية، وانتشار الاشتراكية واستخدام قضية فلسطين كوسيلة للوصول إلى الحكم والبقاء وضرب التيارات الأخرى، وكان شعارهم (أن لا صوت يعلو فوق صوت الحركة). ومن أهم أسباب ضعف هذا العصر هو انقسام الدول العربية إلى معسكرين، معسكر الملكيات الذي كانت تمثله في الأساس دول الخليج وعلى رأسها السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية في شمال أفريقيا، ومعسكر الجمهوريات الذي ساد في معظم الدول العربية وعلى رأسها مصر وسوريا والعراق والجزائر. ونشأ نتيجة لذلك معسكران، المعسكر الشرقي وعماده الجمهوريات كمصر والعراق والجزائر وسوريا، والمعسكر الغربي وعلى رأسه السعودية والمغرب والأردن. هذه الخلافات في الرايات ما بين ثورية ورجعية، وفي التحالفات ما بين حلف وارسو (الشرقية) وحلف الأطلسي (الكتلة الغربية) كانت من أهم أسباب الضعف في هذا العصر، الذي قاد إلى الهزائم المتكررة من العدو إسرائيل وعلى رأسها هزيمة يونيو/حزيران 1967م.
نواصل
أستاذ العلوم السياسية بجامعة أم درمان الإسلامية