رأي

أبو عركي الحلقة (2)

و”أبو عركي البخيت” مرهف شفيف عالي الحساسية ودمعتو قريبة، عاشق لرياضة المشي، كنا نقطع كوبري شمبات وكبرى بحري ثم كبري النيل الأبيض، وينتهي بنا المطاف بقهوة العمال بالمحطة الوسطي أم درمان، وهناك نشرب شاي لبن مقنن سيوبر وزلابية من الصاج، وكثيراً ما ينضم لهذا المجلس المرحوم الفنان “العميري” والمرحوم الفنان “خليل إسماعيل” والموسيقار “د. يوسف حسن الصديق”، ومن أهل الصحافة صديقي زميل الدراسة “كمال حسن بخيت” وصديقي “د. الطاهر حسن الطاهر” والمرحوم الصديق الصحفي “أحمد عمرابي” وآخرون من الأصدقاء، وأم درمان وقتها لم تكن مكتظة بمثل هذه الأعداد المهولة من البشر، ومن الأماكن المحببة إلينا (مطعم الرياضيين) ومقره غرب البوستة أم درمان، وأصحاب ذلك المطعم هما الصحفي الكبير “ميرغني أبو شنب” وشقيقه “قرشي” والمطعم في الأمسيات أشبه بمنتدى شامل يضم نجوم الفن والرياضة والصحافة والإعلام، ولا ينافس ذلك المطعم إلا مقهى “يوسف الفكي” قبالة (سينما الوطنية) أم درمان، كنا نتجول في تلك الأماكن ونتخذها منتديات نلتقي فيها مساءً للتفاكر في شأن الثقافة عموماً، من بين أساتذتنا المرحوم “حسن عبد المجيد” والرجل كان موسوعة في المسرح ورائداً من رواده، فقد كان يكتب النص المسرحي ويخرجه ويمثل فيه، وله إسهامات مقدرة في الدراما الإذاعية، وكان محباً للمسرح للدرجة التي تفرغ له، والرجل له دور مقدر في الشأن الثقافي في سبعينيات القرن الماضي ولم يجد حظه من التكريم، وهنالك عدد من تلاميذه يمكن أن يكتبوا عنه ليعطوا الرجل حقه من التوثيق وهم كثر، الأستاذة “منى عبد الرحيم”، و”د. عز الدين هلالي” و”د. سعد يوسف” والبقية تأتي.. و”أبو عركي” قاسم مشترك في كل تلك المناخات وصديق حميم لكل تلك الكوكبة من المبدعين، في تلك الأيام احتفلنا بمسرحية (الرفض) التي ألفها وأخرجها أستاذنا الراحل “حسن عبد المجيد”، وكانت علامة متميزة في أنجح موسم مسرحي يشهده المسرح القومي، وأذكر أن البطولة النسائية كانت لـ”منى عبد الرحيم” و”تحية زروق” و”د. عز الدين هلالي” و”حسن عبد المجيد” و”عركي” شريك أصيل في تلك الأحداث مشاركاً برأيه ونقده على غير أقرانه من فناني الغناء، لذا كان “عركي” لا يخرج أعماله الغنائية إلا بعد أن يعمل فيها فكرة، وبعد طرحها على أصدقائه من فنانين ونقاد وشعراء. استأذنا “طلحة الشفيع” و”كمال حسن بخيت” والمرحوم “أحمد عمرابي” وهم من طليعة الصحافة الفنية لم يدخروا وسعاً في تسليط الضوء على كل الأعمال الغنائية الجميلة الشيء الذي حفز “عركي” و”زيدان” و”خليل إسماعيل” – يرحمهما الله –  وأطلقوا عليهم الفرسان الثلاثة. (لو كنت ناكر للهوى زيك، كنت غفرت ليك) للشاعر اللواء “عوض أحمد خليفة”، كانت ومازالت من أغنيات الزمن الجميل، (وبخاف أسأل عليك الناس)، للصديق “حسن السر” كانت اختباراً لقدرات “عركي” في التأليف الموسيقي الغنائي بعد أن غنى من ألحان صديقه الموسيقار العظيم “د. محمد الأمين” والمرحوم الملحن العبقري “أحمد زاهر”.. كذلك “عركي” قارئ نهم للشعر قرأ لشاعرنا الكبير “ود المكي”، فاختار له (بعض الرحيق) ولحنها.. وقرأ لـ”الفيتوري” فلحن له أكثر من عمل، ثم كانت ثنائيته مع زوجته الأخت “د. عفاف الصادق”، والتي أفرزت العديد من الأعمال المشتركة، ثم علاقته بالشاعر الكبير “هاشم صديق” والتي أثمرت عدداً من الأغنيات الجميلة. ورومانسية “عركي” تتجلى في كثير من مواقفه الحياتية، فهو إن أتلقى صديقاً كان غائباً أمطره بدموع فرح اللقاء وإن ودع صديقاً الوداع الأخير كالراحل “هاشم هريدي” عازف الإيقاع في فرقته أو الراحل “زيدان” أو الراحل “خليل” أو أي من زملائه بكى بكاءً مراً وانكفأ على نفسه حزناً لفراق الأحبة وعاف الطعام ومرض حتى يندمل جرح الحزن.. و”عركي” لا يقنع في بروفات أغنياته إلا بالممتاز من البروفات والتدريب والموسيقيون من زملائه يعرفون فيه تلك الصفة، فلا مجال للعزف العادي أو السهو أو التمليس في الآلة، فأذنه تلتقط الكمنجة النشاز من بين عشرات الكمنجات، وكثيراً ما يحرص على تدوين النوتة الموسيقية والتوزيع آخذاً بآراء “محمد آدم المنصوري” أو زميله وصديقه الموسيقار الراحل “أميقو” والراحل الموسيقار “إسماعيل عبد الرحيم” والراحل الموسيقار الكبير “جمعة جابر، وكانت له صولات وجولات في عالم الموسيقى وعلومها، وكثيراً ما يصر على الغناء بأوركسترا كثيرة العدد والآلات لأنه يطمح في الثراء النغمي ويحلم بأوركسترا متكاملة، ويذهب في أحلامه إلى تأسيس أوركسترا بالمواصفات العالمية لتعزف سيمفونيات سودانية، ولأن “عركي” وسط الناس كثيراً ما تشغله رسالته كبدع، فتبنى بعض النصوص الشعرية ذات الصفة التعبوية الناقدة للأنظمة الشيء الذي سبب له عثرات في إنفاذ مشروعه الثقافي الغنائي، فالغناء عند “أبو عركي” ليس ترويحاً أو ترفيهاً أو لمناسبات الأعراس، بل قضية والتزام نحو كافة المتلقين لغنائه الشيء الذي وضعه في تصنيف الفنانين المعارضين للأنظمة الشمولية، وأحياناً يصنَّف ضمن طائفة حزبية أيدويولجية، لكنه في حقيقة الأمر يحمل حساسية الفنان الملتزم تجاه مشروعه كأحد حداة ركب الغناء السوداني.. و”عركي” (يركب راسو) لسنوات هاجراً للغناء والموسيقى، وكثيراً ما يعتذر عن مشاركاته في برامج الإذاعة والتلفزيون والاحتفالات الرسمية، وكثيراً ما استغرقنا النقاش في تلك المواقف، وأحياناً يرفض تلك الأغنيات التي غناها في بداياته الفنية، باعتبار أنها أغنيات مرحلة يعتقد أنه تجاوزها برغم أنها أغنيات عايشة بين الناس، ولن أنسى ما حييت مواقفه حينما يمرض أحد زملائه، فالرجل يصاب بالهموم ولا يدخر مالاً أو وقتاً ينفقه في علاج ذلك الصديق، ولعلي أقول إن إنسانيته هي التي حدت به لهذا السلوك الجميل، هاتفني قبيل وفاة صديقنا الفنان “خليل إسماعيل” بأن أحضر معي صديقنا “د. عمر محمود” لمراجعته في مرضه، كان يحدثني منتحباً فذهبت ووجدته مهموماً تملأ الدموع عيناه، و”خليل” آثر في حياته الوحدة غير رهط من الكلاب كانت تعيش في كنفه، و”عركي” جابر عثرات كرام، الأسبوع الماضي ذهبت معه لصديق ليقيل عثرته دون منٍ أو أذى، وهو مجامل لدرجة مزعجة في الأفراح والأتراح وزيارة المريض، ولا يتورع أبداً في لم رغيف الخبز إذا وجده في قارعة الطريق، وكم من مرة تناولنا طعاماً مع الشغيلة والعمال إذا مررنا بأماكن بيع الطعام الشعبية في الأسواق ودهشة الناس، ولـ”عركي” أسلوب (ولدك كان كبر خاويهو) وليس ولدك فقط، بل (بتك كان كبرت خاويها)، والحمد لله وما شاء الله عدد من أبنائه ساروا على دربه ومنهم  ومنهن من صار موسيقياً محترماً.. “عركي” حينما سجل ألبوماً لشركة (حصاد) كان مثالاً للفنان الذي يحترم فنه، فعكف على إخراجه بالدرجة التي أثارت انتباه العديد من المشتغلين بصناعة الغناء في مصر، والذي حرضني على كتابة هذه السطور عن صديقي “عركي” هو “سراج مصطفى” نسبة لعودته للغناء لاسيما حفله الذي أقامه بـ(المسرح القومي) مؤخراً، وليعذرني “عركي” إن سقطت بعض الأسماء.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية