تقارير

(المجهر) تكشف دلالات ومغازي إعفاء "سلفاكير" لجنرالات الجيش الشعبي من الخدمة العسكرية!

أغلقت باب الوطن وفتحت منافذ الهجرة حينما استحال العيش الكريم وبات راتبها لا يفي حتى بلبن أطفالها الزغب الحواصل.. ومثلها آلاف بل قيل ملايين من (الديسابور) في منافي اختيارية وقهرية وإنسانية وسياسية.. من أقاصي الدنيا في أستراليا القارة التي نفى إليها الأوربيون في القرون الماضية عتاة المجرمين وأصحاب السوابق وعصاة القانون وحتى أمريكا الجنة والفردوس المتخيل مروراً بأوروبا وبلاد العرب والعجم.. لأن الوطن حينما تستحيل الحياة لبعض أبنائه ويلفظهم بعيداً عنه تصبح قصة “سامية” واحدة من آلاف القصص والحكايات.. وقد سكنت مفاصل الوطن حرب تمددت ومجاعات أهلكت النسل والحرث، وكوارث وأدت أحلام شباب الأمة، وفواجع ومواجع جعلت الوزير السابق (سائق ركشة) والأستاذ الجامعي بائع أحذية بالية، والمهندس حطابياً، فكيف لا تصبح “سامية” أستاذة مرحلة الأساس مهاجرة في أرض الكنانة جواز سفرها يفضح وزارة التعليم العالي وحاجتها وفقرها تعرفها من سيماء وجه صبوح.. يشقي ويكدح في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي في مقهى السودان لإطعام أطفال من جوع وسترة حال بعرق جبين و(خدمة ضراع).
في مقهى السودان الواقع في قلب القاهرة تبدو صورة السودان القديم.. مجسدة في الوجه والسحنات والقصص والحكايات.. هذا بائع تبغ (برنجي) (قولد) وذلك يحتضن (حُقة) عماري زرع في ربوع دارفور وتم تصديره لمصر والعراق واليمن والسعودية وحتى بلاد الأفرنج.. غريب أمر السودانيين (يتمسكون) (بتمباكهم) في حلهم وترحالهم.. وجوه في المطعم عليها غبرة ترهقها قترة.. يذبحون وقت فراغهم العريض (بالدمينو) ولعب الورق والتدخين بشراهة.. المطعم يقدم كل الوجبات السودانية من العصيدة والقراصة حتى (أم فتفت) والكمونية.. أكثر من سبعمائة ألف عدد الجالية السودانية في مدن مصر.. للمعارضة المسلحة وجود وسط الجالية تحتضنها مخابرات الدولة العميقة من وراء “مرسي” أو بعلمه تلك قصة سياسية، ونحن بصدد فتح جرح عميق لقصة “سامية” المعلمة التي أصبحت بائعة شاي في القاهرة، وفلذات كبدها الصغار (أصبحوا) ينظفون أكواب الشاي ويتجولون بين زبائن المحل بدلاً من قاعات الدرس والتحصيل في وطنهم.. ولندع أولاً سامية” تروي قصتها لـ (المجهر) بالكيفية التي تروق.. ما بين طلب زبون لشاي لبن.. وقهوة.. وجنزبيل.. بدت “سامية” متوجسة من الحديث وهي لا تثق مطلقاً في الصحافة وتشكك في نشر روايتها كما جاءت على شفاهها.. (أنا منصورية من المناصير.. درست الأولية في أبو حمد وانتقل والدي الذي يعمل في السكة حديد لغرب السودان محطة “الفولة”، هناك تفتح وعيي بالحياة وما بين بيئة الشمال الصحراوية التي وهبها النيل الحياة وبادية المسيرية ومدنها.. درست حتى الثانوي.. وكان نصيبي النجاح وولوج الجامعة كحلم لأي فتاة وشاب لأنها مفتاح المعرفة.. بعد التخرج فقدت الكثير وطرقت أبواب الوظائف.. لكن صدتني لجان الخدمة إما بسبب أنني بلا ظهر ولا من يقف أمامي أو بسبب لا انتماء سياسي.. اتجهت نحو التربية والتعليم فأصبحت معلمة مرحلة أساس عام 1994م، أبحث عن لقمة عيش في مهنة الرسل والأنبياء والرساليين. يحدوني الأمل في وطن ظل قادته يبشرون ببزوغ فجر سيطل من الشرق.. تزوجت وأنا معلمة وأنجبت أربعة من الأبناء.. بنات وبنين.. حملتهم في الحنايا وبين الضلوع.. كانت المرتبات الشهرية على قلتها (تتأخر) شهراً بعد الآخر.. ولكن الولاة والمحافظين والوزراء أول من يصرفون رواتبهم وربما لا يحتاجون لها في الأصل.. اتجهت مع زوجي لأرض الحجاز (المملكة العربية السعودية) كان نصيبي وزوجي “الطرد” لتخلفنا كمعتمرين عدت لبلادي والأوضاع الاقتصادية فرقت بيني وزوجي بعد استحالة العيش معاً.. أخذت أتردد على (مظان) الوظائف في الدواوين الحكومية والوزارات وفي كل يوم تتضاعف حسرتي.. في العام الماضي خرجت من وطني وبرفقة فلذات كبدي لمصر.. وضعت شهاداتي الجامعية في متحف النسيان.. وأصبحت بائعة شاي في المقهى السوداني في القاهرة من أجل أبنائي وبناتي.. أسكن في غرفة واحدة بلا تدفئة أيام الشتاء القارس ولا مبرد أيام الصيف.. أشعر بأن وطني لفظني.. وأبوابه سُدَّت في وجهي.. تم إغرائي بالخروج بأطفالي نحون “تل أبيب”.. لكني لن أفعل ذلك تلك خيانة لمبادئ وقيم تربيت عليها، كيف أنسى صورة وصراخ “محمد الدرة”.. كيف أخون المناضلات الفلسطينيات.. كيف ألوث تاريخي”.. الحاجة سكينها حادة.. ولكن أغرس في أحشائي ألف سكين ولن أذهب لإسرائيل بحثاً عن عيش لا كريم).
تلك شذرات من حديث “سامية” التي حينما سألتها عن تصويرها.. ونشر صورتها في الصحيفة قالت بشرط أن تظهر إلى جانبي ابنتي التي تساعدني في صنع الشاي وحمله للضيوف.. بدلاً عن أن تذهب ابنتي لقاعات الدرس قهرتها ظروفنا الخاصة لتعمل (عاملة) مع أمها بائعة الشاي، وأشعر بالفخر وشهادتي الجامعية بين أواني الطعام.. وبقلب يحدثني عن مصير الملايين من بنات وطني ونسائه اللاتي تتمزق أحشاؤهن بسبب النزاعات والحروب والأوضاع الاقتصادية الآخذة في التدهور يوماً بعد الآخر.. إذا كانت صناعة النساء للشاي والأطعمة في السودان قد أصبحت جزءاً من مظاهر المدن وصورة تتمدد من كادوقلي حتى حلفا.. ومن الجيلي حتى بورتسودان.. فقد انتقلت (حرفة) صناعة الشاي الآن مع السودانيين المهاجرين و”سامية” في قلب القاهرة تبيع الشاي والقهوة بعد أن خرجت من وطنها.. أما لماذا خرجت فبين السطور قصة معلمة. تكشف عن حال المعلمين في الوطن.
{ سلفاكير إحالة الحرس القديم للتقاعد
تظل القرارات التي تصدرها حكومة دولة جنوب السودان لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما يجري على صعيد العلاقة مع السودان.. ولفترة قد تطول تشكل أخبار الجنوب جزءاً من اهتمامات الرأي العام السوداني والأمر كذلك (جنوباً) وحينما أصدر الرئيس الجنوبي “سلفاكير مارديت” قرارات الإحالة والتقاعد لعدد كبير من ضباط الجيش الشعبي من رتبة العميد واللواء والفريق والفريق أول.. وأحال بعض حكام الولايات للتقاعد عن الخدمة العسكرية خاصة حكام الولايات الحدودية الشمالية.. فلماذا أتخذ الفريق “سلفاكير” هذه القرارات؟ وهل للقرارات علاقة بمد السلام وجزر الحرب مع الشمال؟ أم دواعيها وأسبابها أخرى؟ وهل تقود قرارات الإحالة للتقاعد لانفجار الأوضاع داخل دولة جنوب السودان في مناخ المجاعة التي بدأت تضرب أجزاءً واسعة من الجنوب قبل حلول الخريف.. وتصاعد الصراعات القبلية بين المورلي والدينكا والنوير في ولاية جونقلي؟
يتعذر على المراقب والمتابع للأوضاع في جنوب السودان قراءة ما يجري هناك بدقة نظراً لحداثة الدولة وهشاشة بنيانها.. وضعف مؤسسات صناعة القرار السياسي في ظل هيمنة الجيش الشعبي على القرار وسيطرته على مفاصل الدولة وهو جيش تعتريه تشوهات وأمراض القبلية والجهوية.. ويتألف الجيش الشعبي من عدة تكوينات.. أهمها الجناح العقائدي الذي تشرب بنظرية الراحل د. “جون قرنق” (السودان الجديد) وهؤلاء بعضهم بلغ من العمر عتياً حيث تتفاوت أعمار منسوبي الجيش الشعبي من (20) عاماً إلى (80) عاماً.. ويشكل قدامى المحاربين والمعاقون تياراً كبيراً في الجيش الشعبي الذي يقدر عدده بنحو (500) ألف جندي وضابط ويفتقر للتنظيم.. وتسعى الأمم المتحدة وصناديق العون الدولية لربط تقديم المعونات والقروض بالتزام الدول المتلقية للقروض والإعانات بأن لا يتجاوز عدد قواتها النظامية الـ (10%) من جملة عدد سكان الدولة.. إلا أن الأوضاع في الجنوب تختلف كثيراً.. والمكون الثاني للجيش الشعبي يتمثل في المليشيات القبلية التي انضمت للجيش الشعبي بعد اتفاقية السلام ممن كانوا يحاربونه مثل قوات “فاولينو ماتيب” ومليشيات السلطان “إسماعيل كوني” المورلي، ومليشيات السلطان “عبد الباقي أكول” في شمال بحر الغزال ومليشيات الكجور “وريانق” في أعالي النيل، ومليشيات “المنداري” حول جوبا والمنطقة الغربية وهؤلاء انضموا للجيش الشعبي ولكن ولاءهم لقادتهم وقبائلهم ولا يلتزمون بطبيعية الحال بتقاليد الجيوش المحترفة.. والمكون الثالث للجيش الشعبي يتمثل في أبناء جبال النوبة والنيل الأزرق الذين قاتلوا مع الجنوبيين حتى نال الجنوب استقلاله.. وإزاء هذا الواقع الذي وجد الرئيس الجنوبي “سلفاكير” نفسه مرغماً على التعاطي معه.. برزت في المفاوضات مع السودان أخيراً سطوة وهيمنة جنرالات الجيش الشعبي حتى على القرار السياسي.. وتبدت صورة الجنرال الذي يمسك بتلابيب السياسي ويقهره ويزجره بالعصا التي بيده.. حينما رفض قادة الجيش الشعبي الحلول التي طرحتها الوساطة بشأن (14) ميل وحشد الفريق “مولنق” العسكريين من أبناء شمال بحر الغزال وقاد ما يشبه التمرد العسكري على قيادته السياسية والعسكرية.. و(أضمر) “سلفاكير” غيظه وغضبه على هؤلاء الجنرالات بعد أن أصبحوا عبئاً ثقيلاً على الحكومة.. يعتبرون أنفسهم أصحاب حق أصيل والآخرين أصحاب حقوق ثانوية.. يباهون بتاريخهم في الحركة الشعبية وما يسمى بأيام النضال حتى بات “سلفاكير” عاجزاً عن مواجهتهم ويلجأ أخيراً لقرارات بإحالة “مولنق” حاكم شمال بحر الغزال من الخدمة العسكرية والإبقاء عليه كوالٍ بعباءة مدنية.. كما أحال في الوقت ذاته الجنرال “تعبان دنيق” حاكم ولاية الوحدة وأبقى عليه في منصبه المدني، وأحال حكام غرب بحر الغزال وأعالي النيل وجونقلي.. ولكنه نظر عميقاً لجبهة النوير فأحال مع “تعبان” “دينق” للتقاعد عن الخدمة العسكرية نائب الراحل الفريق “فاولينو ماتيب” وهي خطوة احترازية لما يمكن أن يثيره بقاء نائب “فاولينو” في الخدمة العسكرية وإحالة خصمه اللدود “تعبان” للمعاش ولكن القرارات التي تبدو في ظاهرها (روتينية) وتقاليد متبعة في كل جيوش العالم حيث سبق أن أحال “جون قرنق” كل هيئة قيادة الجيش الشعبي بما في ذلك “سلفاكير ميارديت” نفسه قبل أن يعيده للخدمة رحيل “جون قرنق” وغيابه عن المشهد السياسي في الجنوب.. وشملت تلك الإحالات فيما شملت “دينق ألور” و”باقان أموم” و”جاستين باك” وآخرين… ولاحقاً أحال “سلفاكير” صديقه “بيور أسود” ووضعه في منصب وكيل وزارة الدفاع وأهم سمات الإحالة الأخيرة للضباط الكبار في أن كل الضباط خاضوا تجربة الانتخابات الأخيرة قد تمت إحالتهم، فهل سعى    “سلفاكير” بهذه القرارات لتأسيس جيش أكثر مهنية ملتزماً بقرارات المؤسسة السياسية وخاضعاً لها حتى يقبل على أية تسويات مع السودان دون النظر للحسابات الداخلية وجيوب التطرف التي تناصب السودان العداء؟ وهل بالضرورة أن يقطف “سلفاكير” ثمرة هذه القرارات بين عشية وضحاها أم ثمة حاجة لمزيد من الوقت حتى يمسك الرئيس “سلفاكير” بكل خيوط القوة في الدولة التي تواجه أوضاعاً اقتصادية صعبة جعلته غير قادر على تنفيذ أي مشروع تنموي يضيف لرصيده السياسي خاصة و”سلفاكير” يطمح في خوض تجربة الانتخابات القادمة!
وجاءت قرارات الإحالة للتقاعد من الخدمة العسكرية قبل شهر واحد من انعقاد المؤتمر (التنشيطي) للحركة الشعبية في شهر مارس القادم وينتظر أن يثير المؤتمر التنشيطي قضايا الأوضاع الاقتصادية والعلاقات الخارجية وتوازنات المشاركة في السلطة، وقد برز تيار شبابي يدعو لتجديد هياكل الدولة.. فهل تتأثر المفاوضات بين السودان وجنوب السودان بالمؤتمر (التنشيطي) للحركة في مارس القادم؟
نعم ربما انتظر المفاوض الجنوبي حتى انعقاد المؤتمر حتى لا يقبل على اتخاذ قرارات تؤثر على وضعية النخبة التي تقود التفاوض.. والمراقب للإدلاء السياسي والإعلامي والتنفيذي في دولة جنوب السودان يجده مقارباً ويحذو حذو الأداء السياسي في الشمال وفكرة المؤتمرات التنشيطية من بنات أفكار المؤتمر الوطني وحتى برامج تلفزيون جنوب السودان كأفكار مستوحاة من برامج الفضائية السودانية من ساحات الفداء حتى برامج الأطفال.. فلماذا لا تقود هذه (المشتركات) لتفاهمات سياسية؟

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية