الخرطوم ـ محجوب عثمان
“أرجو السماح إن أطللت عليكم مرة ثانية لذات الغرض وهو الحفاظ على هذا الوطن العزيز وشعبه الكريم حرصاً على تماسك المنظومة الأمنية والقوات المسلحة بصفة خاصة من الشروخ الدامية أو الفتن القاتلة، وتوكلاً على الله وبركته لنبدأ مسيرة التغيير هذه بقيمة جديدة قد تعين على اجتياز المراحل الصعبة وتكون سنة حميدة لتحقيق الأهداف السامية ومنها الزهد في المواقع التي قد يرى البعض بريقها أو جاذبيتها.. ولا أريد إلا إن أرسي قيمة بإذن الله وهي الزهد في المواقع والمناصب الرفيعة ثم قيمة أخرى لا تقل عن تلك وهي الحرص على اختيار القوي الأمين، عليه وعن رضا بعلم يعلمه ربي أعلن أنا رئيس المجلس العسكري الانتقالي التنازل عن هذا المنصب واختيار من أثق في خبرته وجدارته لهذا المنصب وأنا على ثقة أنه سيصل بالسفينة التي أبحرت إلى بر الأمان”…
هكذا ختم الفريق أول “عوض بن عوف” رئاسته للمجلس العسكري التي استمرت يوماً واحداً فقط جلس فيه على سدة الحكم في البلاد… بيد أن الواقع يؤكد أن التنازل لم يكن إلا نتاج ضغوط كبيرة أغلبها أتى من الثوار أمام القيادة وباقيها جاء من داخل المنظومة الأمنية وأخرى جاءت من جانب أسرة الفريق أول “بن عوف”.
اختيار “البرهان”
لم يترك الفريق أول “ابن عوف” منصة تلفزيون السودان الذي بث خطاب تنحيه قبل أن يسمي خليفته فواصل بيانه بأن قال “وعليه فقد اخترت وبعد التفاكر والتشاور والتمحيص الأخ الكريم الفريق أول ركن “عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن” خلفاً لي كما أعلن قبل ذلك إعفاء الأخ الكريم الفريق أول ركن د. “كمال عبد المعروف الماحي بشير” عن منصبه كنائب رئيس للمجلس العسكري بعد أن أصر على ذلك وعجز منطقي عن إقناعه وعجزت قناعتي عن إثنائه وبقائه في الموقع ولو إلى حين.. أما بقية الإجراءات فستتم وفق نظم وقوانين القوات المسلحة”.
رسائل الفريق “ابن عوف”
أرسل “بن عوف” في خطاب تنحيه عدة رسائل فقد قال: “شعبنا الكريم .. أختم بافتخاري بكم وإن كان لي رجاء فأرجو أن يظل الوطن أمناً وأمانة في عنق شعبه وجيشه والمنظومة الأمنية وقادة هذا الوطن سواء عسكريين أو مدنيين، وإن كان لي أمل فهو أن أرى هؤلاء القادة قد توصلوا إلى نقاط التقاء وتفاهم عاجل لاتفاق لما يمر به وطننا دون التمسك بالمواقف أو الالتفات إلى المصالح عظيمها وحقيرها.. كبيرها وصغيرها.. وإن كان لي فخر فهذا الشعب الملهم وهذا الجيش الباسل العظيم.
وإن كانت لي وصية فهي تعجيل التواصل والالتقاء للوصول العاجل للحلول فوطننا يسع الجميع”.
خليفة “ابن عوف”
رئيس المجلس العسكري الانتقالي السوداني الجديد، هو المفتش العام للقوات المسلحة، الفريق أول ركن “عبد الفتاح البرهان”، الذي عينه “البشير”، نهاية فبراير من العام 2018 بعد ترقيته من رتبة الفريق الركن إلى رتبة الفريق أول، ضمن تغييرات عسكرية واسعة داخل صفوف القوات المسلحة كما يعرف بأنه قائد القوات البرية السابق، المشرف على القوات السودانية في اليمن بالتنسيق قائد قوات الدعم السريع مع “محمد حمدان دقلو”، “حميدتي”.
طريق “البرهان” نحو الرئاسة
قالت تقارير إعلامية إن “البرهان” كان من المقرر له منذ التخطيط لتغيير النظام أن يكون رئيساً وأن يقوم بإلقاء البيان الأول للمجلس العسكري، لكن تعقيدات داخل المؤسسة العسكرية أهمها وجود رتب أخرى تتفوق عليه في “أقدمية الجيش” باعتبار أنه من الدفعة (31) في الكلية الحربية بينما هناك ضباط برتبة الفريق أول من الدفعة (29) والدفعة (30) بينهم الفريق أول “كمال عبد المعروف” والفريق أول “هاشم عبد المطلب”، وكذلك الفريق أول “عوض بن عوف” فكان أن انصاع صناع التغيير لقانون القوات المسلحة بأن يكون “ابن عوف” و”عبد المعروف” في قيادة التغيير بينما ذهب “البرهان” ليعتقل الرئيس السابق “عمر البشير”.
ظهور مسبق
ربما قادت العملية التي نفذها “البرهان” لاعتقال “البشير” والتي بدأت بتبديل الحرس وقطع الاتصالات إلى أن يبرز نجمه خليفة “لابن عوف” لكن كثيرين يرون أن “البرهان” فرضه الثوار كونه أول ضابط رفيع ينزل إلى ساحة الاعتصام ويخالط الثوار إذ طافت صورة له مع رئيس حزب المؤتمر السوداني السابق “إبراهيم الشيخ” في ساحة القيادة قبل سقوط النظام في وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبح اسم “البرهان” يتردد وسط الثوار لاسيما وأن “الشيخ” حينها كان قد طالبه أمام الثوار بالانحياز للشعب وتغيير النظام، وكان رد “البرهان” حينها موحياً بأن وراء الأكمة ما وراءها.
رفض “حميدتي”
يقال إن الفريق حينها “محمد حمدان دقلو “حميدتي” رفض أن يعتلي هرم التغيير الفريق أول “عوض بن عوف” باعتباره كان وزيراً للدفاع ونائباً أول لرئيس الجمهورية، ويبررون ذلك بأن “حميدتي” رفض عضوية المجلس العسكري وغادر غاضباً في الوقت الذي كانت قواته تتواجد بكثافة داخل الخرطوم، ويربطون رفض “حميدتي” والتعقيدات التي صاحبت اختيار “ابن عوف” بفقرة جاءت في خطاب تنحي “ابن عوف” نفسه عندما قال بأن تنحيه يأتي “حرصاً على تماسك المنظومة الأمنية والقوات المسلحة بصفة خاصة من الشروخ الدامية أو الفتن القاتلة”.
ويرون ذلك الرفض وتلك المخاوف مثلت رافعة إضافية للفريق أول “البرهان” لاسيما وأن الرجلين حينها كانا قريبين من بعضهما البعض بحكم إشراف الفريق أول “عبد الرحمن البرهان” على القوات المشاركة في حرب اليمن، والتي تمثل قوات الدعم السريع التي يقودها الفريق أول “حميدتي” عمادها الرئيس.
الخطوة الأخيرة
ربما مثل رفض الثوار أمام القيادة العامة الصريح لتولي الفريق أول “بن عوف” رئاسة المجلس العسكري الانتقالي والتي عبروا عنها من خلال هتافات داوية انطلقت بمجرد تلاوته البيان الأول واستمرت حتى تنحيه، كانت تقول “ابن عوف مالوا.. جابو الكيزان”، ورقة ضغط كبيرة على الفريق أول “ابن عوف” فقد كشفت بعض التقارير أن عدداً من أفراد أسرته وعلى رأسهم ابنه طالبوه بالتنحي ما دام الشارع العام يرفض ذلك.. ربما كانت هذه الخطوة الأخيرة التي جعلت الفريق أول ركن “عوض بن عوف” يفكر كثيراً في أن يترك الجمل بما حمل دون أن يتحمل وزر ومسؤولية أن تنجرف البلاد إلى أتون صراع قد يستمر كثيراً.
ارتياح الثوار
وجد اختيار الفريق أول “عبد الرحمن البرهان” رئيساً للمجلس العسكري ارتياحاً كبيراً وسط الثوار ووسط القوى السياسية خاصة وأنه تزامن مع إحالة الفريق أول ركن “عوض بن عوف” والفريق أول ركن “كمال عبد المعروف” والفريق أول “صلاح قوش” للمعاش فكان أن حمل ذلك بعداً آخر يعني إبعاد عدد من قيادات النظام السابق النافذين وبعد أدائه القسم انخرط “البرهان” في مهامه في محاولة لتحقيق العبور الآمن للبلاد.
نقاط على الحروف
في أول ظهور إعلامي كشف الفريق أول ركن “عبد الفتاح البرهان”، عن تشكيل وفد بطلب من الإدارة الأمريكية، سيتوجه إلى الولايات المتحدة خلال أسبوع للتباحث حول رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، وتوقع حدوث انفراج في ذلك الأمر، وأشار إلى أن المجلس قدم تنويراً لممثلي البعثات الدبلوماسية الغربية، مبيناً أن بعضهم قابل أعضاء المجلس العسكري، وقال: (هم متفقون معنا على الإسراع بالانتقال لحكومة ديمقراطية منتخبة ونحن نعمل على ذلك) ، وتعهد “البرهان” حينها بالحفاظ على وحدة السودان وأمنه واستقراره، وأكد حرص المجلس العسكري الانتقالي على العبور بالبلاد من المرحلة الحالية وإيصال الناس إلى المرحلة الانتقالية بتوفير وتهيئة البيئة لتولي أمر إدارة الدولة، وطمأن “البرهان”، أهل السودان بأن الوطن في حدقات العيون وأن الولاء للسودان، وشكر القائمين على أمر الحراك لتفهم الوضع الراهن، وحيا الشباب وأشاد بالتزامهم بالسلمية.