تقرير – النذير السر
شكل الاقتصاد شفرة التغيير السياسي لكل الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد منذ الاستقلال وحتى سقوط نظام الإنقاذ. وظل الاقتصاد السوداني كذلك متنازعاً بين النظريتين الرأسمالية والاشتراكية، عطفاً على التحولات في ميزان القوى الدولية وعلاقات أنظمة الحكم في السودان بها.. ونظام الإنقاذ اتخذ منذ السنوات الأولى النظام الرأسمالى كخيار لإدارة الاقتصاد السوداني؛ الأمر الذي ترك جملة الآثار باهظة التكاليف في النواحي الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن نجاحه في مشروع استخراج النفط السوداني، استطاع أن يطمر بعض تلك الآثار عبر إطلاق مشاريع كبرى في مجالات البنية التحتية، وتوسعت السعة الاستيعابية للاقتصاد لاستقبال الاستثمارات الخارجية، إلا أن وقوعه في شرك الفساد المرتبط ببدايات ظهور النفط لأول مرة في الدول أوقعه في مستنقع الارتهان لجماعات المصالح التي أضحت المتحكم الأول والأقوى في فرض السياسات الاقتصادية التي تحقق مصالحها، فجمد قرار توطين القمح، كما تم إهلاك النقل السككي الحديدي لصالح شركات النقل المرتبطة بجماعات المصالح؛ الأمر الذي ساهم في استفحال تكاليف المنتجات السودانية، فاستعصى شراؤها للمستهلك الوطني، وفقدت قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية مع فقدان البلاد لما يقارب ثلثي عائداتها من النفط بعد انفصال الجنوب؛ الأمر الذي أدى إلى عجز كبير في ميزان المدفوعات لدرجة عجز الدولة عن القيام بمهامها الأولية في تسيير المؤسسات القائمة، بل تعثرت في الوفاء بسداد ما عليها من التزامات لصناديق التنمية العربية الممول الأكبر لكل مشاريع التنمية بالبلاد طوال سنوات ما بعد الانفصال، وهو الأمر الذي عجل بالثورة التي أدت لسقوط نظام الإنقاذ.
اقتصاد الثورة
مثلما شكل الاقتصاد رافعة للحرية والتغيير للصعود للحكم، يشكل الآن أكبر التحديات التى تواجهها، فإن كان التنازع بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي يقع في السابق بين حكومات مختلفة، فإنه الآن يقع داخل حكومة واحدة، ويكاد يعرقلها بالكامل، فالصراع بين المدرسة الاقتصادية التي يملثها وزير المالية الدكتور “إبراهيم البدوي” والأخرى التي يمثلها التيار اليساري بتحالف الحرية والتغيير تمظهر منذ الأسابيع الأولى لتكوين الجهاز التنفيذي، وقد أبان وزير المالية بوضوح خطته للنهوض الاقتصادي الذي يستهدف أولاً إعادة التوازن للاقتصاد، ومن ثم تحقيق نسبة نمو إيجابي، واندرج في حوارات مكثفة مع المؤسسات الدولية المعنية بوضع الوصفات التي تجعل الاقتصاد إذا ما طبقها يستحق دعمها المالي واللوجستي، وقد شكل اجتماع أصدقاء السودان بالخرطوم مؤشراً لجدية المجتمع الدولي لدعم خارطة الطريق التي وضعها وزير المالية، وقد تمت مواجهة هذا الاجتماع بهجوم كبير من القوى اليسارية التي اعتبرته يؤسس لإنفاذ برنامج البنك الدولي الذي يعد عندها مجرد أداة للسيطرة الإمبريالية، لم يلتفت وزير المالية لهذا الهجوم وقدم موازنته المالية للعام 2020 لمجلس الوزراء والمجلس السيادي متضمنة خطته لرفع الدعم، وإنشاء شبكة ضمان اجتماعي تعد الأوسع في أفريقيا والعالم العربي، حيث تستهدف دعم أكثر من (5) ملايين مواطن دعماً مباشراً، وقد تمت إجازة الموازنة من مجلسي السيادة والوزراء، الآن المجلس المركزي للحرية والتغير وجه بتأجيل العمل بها لحين انعقاد المؤتمر الاقتصادي، وهو الأمر الذي أدى إلى استفحال الأزمة الاقتصادية بشكلها الراهن وفقاً لخبراء اقتصاديين، وقد أضحى الصراع على آليات إصلاح الاقتصاد الوطني سياسياً أكثر من كونه يعتمد على النظر لتجارب الدول التي سبقتنا في الوقوع في أزمات اقتصادية مشابهة كاليونان، كما أنه مرتبط بعقوبات اقتصادية أمريكية تقتضي هي الأخرى قدراً من الواقعية في التعامل مع المنظمات المالية الدولية باعتبارها صاحبة القول الفصل في منح شهادات الأبراء من غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وبالرغم من ذلك فإن الصراع داخل قوى الحرية والتغيير على حافة هاوية الكارثة الاقتصادية استمر قائماً على السياسة وليس الحسابات الاقتصادية الواقعية، وهذا يكاد يكون استنساخاً لخلافات اليسار والأحزاب التقليدية في ثاني حكومة بعد الاستقلال وخلافاتهما حول قبول (المعونة الأمريكية).
جدل التغيير
تتبنى بعض أحزاب التحالف الحاكم منطقاً يبدو سليماً من الناحية السياسية يتمحور حول أن اتباع السياسة الرأسمالية هو ما أدى إلى اشتعال الثورة، فلا يمكن وفقاً لرؤيتها أن يكون الداء هو الدواء، كما ترى أن مسألة مصادرة أملاك المؤتمر الوطني واستثماراته، وإعادة ولاية وزارة المالية على المال العام بما في ذلك الشركات التي تتبع للأجهزة الأمنية والعسكرية كفيل بسد عجز الموازنة العامة دون الحاجة لرفع الدعم في هذه المرحلة، حتى لا تخسر القوى الثورية في بورصة الكسب السياسي العام، وهي مقبلة على انتخابات بعد عامين من الآن، كما أن هنالك من يرى أنه لا تعارض بين مواصلة استرداد الأموال المنهوبة، وتعزيز ولاية وزارة المالية على المال العام مع السياسات الاقتصادية الهادفة لإخراج الاقتصاد من بئر العجز العميقة.
الخبير الاقتصادي الدكتور “عادل خلف الله” رئيس اللجنة الاقتصادية لتحالف الحرية والتغيير أقر في حديث لـ(المجهر) بوجود خلافات مع وزارة المالية التي تتبع منهجاً وفقاً لخارطة المؤسسات المالية الدولية، دون النظر للمعادلات الاقتصادية الوطنية، وأن فكرتهم في التحالف تأخذ بضرورة الاعتماد على الموارد الوطنية وحشدها وتفعيلها بما يحقق الاعتماد على الذات، مضيفاً أن هذا الاتجاه أصبح اتجاهاً دولياً عبر عنه مؤتمر باريس للعام 2019، وحول تعهدات رئيس الوزراء في أول لقاء إعلامي معه وتأكيده على أن الحوار مع المؤسسات الدولية سيكون وفقاً للرؤية الوطنية لا الدولية أكد أنهم احتفوا بهذه التصريحات وقتها، وأن مثل هذه المواقف تكشفها المحكات العملية، وحول تجميدهم لموازنة 2019 لحين انعقاد المؤتمر الاقتصادي أكد أنه جاء لأن الموازنة لم تختلف عن موازنات النظام السابق والمتغير الوحيد بها هو ابتدارها بديباجة وشعار الحرية والتغيير، وذلك لأن الذين قاموا بوضعها هم ذاتهم من وضعوا موازنة 2018، وحول الآفاق المنتظرة للمؤتر الاقتصادي فى الاتفاق على خارطة طريق اقتصادي أبان الدكتور “عادل خلف الله” أن الخارطة واضحة وأن الإشكال يكمن في وزارة المالية التي اعتمدت خطة للتحرير الكامل حتى لسعر الجنيه والدولار؛ مما يعني أنها غير متوقفة على رفع الدعم عن الوقود والخبز والكهرباء فقط، وهذا يعني اعتزال الدولة عن القيام بواجباتها، وجزم بأنهم لم يعرقلوا أداء وزارة المالية، بل قدموا لها مجموعة من البدائل التي كان بإمكانها حل المشكل الاقتصادي، مؤكداً أن الوزارة لم تأخذ بها مطلقاً. وفي ظل هذا التباين بين رؤية وفطنة كل من الجهاز التنفيذي والمجلس المركزي للحرية والتغيير تمضي قاطرة الأزمة الاقتصادية ببطء مؤلم على كل القطاعات الاقتصادية، حيث تتصاعد الأسعار بمتوالية هندسية، وتشهد البلاد اختناقات حادة في السلع الضرورية كل هذه التحديات كانت بانتظار المؤتمر الاقتصادي الذي تقرر انعقاده في مارس الجاري، إلا أن جائحة (الكورونا) كانت كفيلة بتأجيله فتم تحديد يونيو القادم موعداً لانعقاده، ولكن السؤال الكبير هل بإمكان الشارع احتمال هذا التأخير؟