يُعد الشعب السوداني من أوائل الشعوب التي تم استقطابها من قبل حكومات الدول العربية للمساهمة في بناء نهضتها التنموية، ويأتي على رأسها المملكة العربية السعودية ودول الخليج، حيث استعانت شركة أرامكو السعودية منذ خمسينيات القرن الماضي بالكفاءات السودانية من المهن الوسيطة والمترجمين التي عملت في المنطقة جنباً إلى جنب مع الخبراء من أمريكا وبقية الدول الأوروبية.
وشهدت العقول السودانية هجرة جماعية شاملة لدول الخليج للمعلمين من الجنسين وأساتذة جامعات في كل التخصصات الأدبية والعلمية إضافة للأطباء والاقتصاديين وخبراء الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية والمحاسبين والمترجمين والمحامين وخبراء المصارف البنكية والإعلاميين والصحافة والعمالة الوسيطة المدربة التي تمثل 80% في أي مشروع يصل عددهم إلى أكثر من (2) مليون تقريباً، بالإضافة إلى العاملين في أمريكا وأوروبا ودول آسيا وأفريقيا يعولون أكثر من (10) ملايين مواطن تقريباً بما توازي نسبته ثلث عدد سكان السودان في كل الأقاليم.
حيث كانت تحويلات المغتربين عبر القنوات الرسمية تعادل نسبة كبيرة من إجمالي موارد النقد الأجنبي المفروض: أن تمثل التحويلات المالية من قبل المغتربين لأسرهم في السودان أهم مصادر الإيرادات بالعُملات الأجنبية والمأمول: أن تساهم هذه التحويلات في تقوية الجنيه السوداني وعودة قيمته إلى ما يعادل جنيه ونصف إسترليني وفق ميزان المدفوعات التي كانت تتم عبر البنوك الأجنبية التي كانت منتشرة في السودان.
لكن قرار حكومة الرئيس “نميري” رحمة الله التي بدأت يسارية الهوى، بتأميم البنوك والشركات الأجنبية كانت بداية النكسة لقيمة الجنيه السوداني. وللأسف وقفت الحكومات المتعاقبة بسياساتها الخاطئة عاجزة أمام الرغبة الاقتصادية الملحة لإعادة العافية للجنيه السوداني مقابل العُملات الأجنبية التي تحولت إلى سلعة حتمت على المغترب أن يحصل على السعر الأفضل لمواجهة أعباء الأسرة في السودان من غلاء الأسعار والخدمات، وفي مرحلة من مراحل مرض الجنيه السوداني انتقلت تجارة العُملة من الداخل لخارج السودان بفعل بعض موظفي الدولة والتجار والأحزاب السودانية، ولكن لم يكن انتقال تجارة العُملة يمثل نهاية مرض الجنيه بل بداية لمرحلة مرضية أخرى، أخطر من فيروس كورونا؟!
جهاز المغتربين يدير شؤون المغتربين من منظور (الجباية) فقط باستلاب الرسوم من المغترب مقابل أي خدمة تقدم له وهو في بلد الغربة، وأيضاً عند الخروج من السودان التي أكاد أجزم أنها تغطي مصروفات السفارات والقنصليات المنتشرة حول العالم، واستمر العمل على هذا الاستلاب حتى يومنا هذا ولكن وفق مصطلحات وعناوين مختلفة.
الوضع الحالي الذي أشرت إليه كـ(واقع) لا يمكن أن يخطو بنا خطوة واحدة للأمام ولا يمكننا من تحقيق (المفروض) ولا (المأمول) (بذهاب زيد ونأتي بعبيد) وإنما بتغيير نظرة التعامل مع المغتربين (كبقرة حلوب) لتغطية مصروفات الأحزاب والوزراء والمسؤولين وتمويل صفقات رجال الأعمال، وإنما يجب التعامل معهم كخبرات وكفاءات في كل التخصصات استفادت منهم دول المهجر في الشرق والغرب في مشروعاتهم التنموية، ولن يعجزهم قيادة المشروعات التنموية والاستثمار في السودان.
لتفعيل دور المغترب في التنمية أرى دمج جهاز المغتربين مع الجهاز القومي للاستثمار وتأسيس وزارة بكامل الصلاحيات تحت مُسمى (وزارة الاستثمار والمغتربين) تدار من كفاءات من المغتربين مستقلة متخصصة انطلاقاً من حقيقة أن المغترب هو بحد ذاته مستثمر وله من العلاقات المباشرة مع المستثمرين والمؤسسات المالية الإقليمية والعالمية ما يؤسس لبناء علاقة عملية ناجحة وبالتالي هم الأقرب لخلق التعاون المشترك.
كقوة مدربة في جميع المجالات المطلوبة في مشروعات التنمية الذي يصب في دفع حركة الاستثمار التنموي في السودان وفق دراسات اقتصادية صحيحة بواسطة هيئة خبراء تضم خبراء (اقتصاديين، زراعيين، مصرفيين، صناعيين، …الخ بعيدين عن المحاصصة الحزبية المقيتة ومراجعة الهيكل الإداري للوزارة واستحداث أقسام جديدة تقدم كافة الخدمات في فكر المستثمر لوضع الشخص الإداري المناسب في المكان المناسب لتذليل الصعاب النظامية والبيروقراطية السلحفائية التي استوطنت في الخدمة المدنية.
ووضع الخطط لإنشاء أرضية خصبة يتم من خلالها استقطاب وإعادة العقول المغتربة والمهاجرة حيث ينتظر أن يكون لها دور رائد لتكريس العمل التكاملي ما بينها وبين العقول التي لم تغادر تحقيقاً لمجالات العمل التمكيني لقيادة مشروعات التنمية في جميع جوانب الإنتاج والخدمات لتهيئة المناخ (للهجرة العكسية) لعودة هذه الكفاءات وأصحاب المهن الوسيطة لأرض الوطن.