آخر سنوات “البشير” (16)
كل القرائن والشواهد كانت تؤكد أن الرئيس “البشير” كان يهيئ الأجواء ويفتح الطريق لرفيقه في سلاح المظلات لسنوات طويلة الفريق أول “بكري حسن صالح” ليحل محله مرشحاً عن حزب المؤتمر الوطني في انتخابات العام 2015م، فاستغل موجة الإصلاح الحزبي والحكومي وأبعد لاعبين كباراً مثل “علي عثمان” و”نافع” من تشكيلة النهايات، ليخلو المكان للجنرال الفارع .
غير أن تطورات لاحقة جرت في العام 2014م، أدت إلى تراجع فكرة تقديم “بكري” في ذهن الرئيس (الحزب لم يكن طرفاً في الخطة)، أهمها صعود نجم الفريق “طه عثمان” بعد زيارته الأولى لدولة الإمارات العربية المتحدة في يونيو 2014م كمبعوث من رئيس الجمهورية، بصحبة شيخ الطريقة المكاشفية بأم درمان “الأمين عمر الأمين”، استقبلهما في تلك الزيارة بمكتبه نائب رئيس الوزراء، وزير شؤون الرئاسة الشيخ “منصور بن زايد”، وكان لقاءً ودياً واستكشافياً، ومنه انطلق “طه” كالصاروخ وبلا توقف، ليصبح موضع ثقة القيادتين في الإمارات والسعودية .
أفلح “طه” في ردم الهوة (النفسية) بين حُكام الإمارات والرئيس “البشير”، ثم اقترب من القيادة السعودية بتزكية إماراتية، وصار موثوقاً لدى ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان”، وتجاوز الملف السوداني ليصبح معاوناً لوزير الخارجية السعودي “عادل الجبير” في تطوير علاقات المملكة مع عدد من الدول الأفريقية ورافقه كثيراً في رحلات خارجية .
زار الرئيس “البشير” الإمارات بعد طول قطيعة في شتاء العام 2015م، تلبيةً لدعوة الرئاسة الإماراتية لحضور فعاليات معرض الدفاع الدولي (آيدكس) الذي تستضيفه “أبوظبي” كل عامين ، وتشارك فيه بجناح هيئة التصنيع الحربي السودانية.
كنتُ ضمن الوفد الصحفي المرافق للرئيس في تلك الزيارة المهمة، حيث استقبله في المطار الشيخ “منصور بن زايد”، فيما استقبله ضمن الرؤساء المدعوين عند مدخل ساحة المعرض الشيخان”محمد بن راشد” نائب رئيس الدولة و”محمد بن زايد” ولي عهد أبوظبي .
ويبدو أن شيخ “منصور” قد تولى ملف العلاقات مع السودان، ففي الزيارة الثانية أيضاً كان “منصور” في استقبال “البشير”، وقد كنتُ أتساءل: لماذا لا يأتي لاستقباله شيخ “محمد” رجل الدولة والجيش القوي ؟!
يبدو أنها كانت ترتيبات سياسية خاصة بالأسرة الحاكمة في “أبوظبي”، فعندما اكتملت الترتيبات استقبل الشيخ”محمد بن زايد” الرئيس “البشير” في المطار في فبراير 2017م، كما أقام له دعوة خاصة مع حرمه في “قصر البحر”، وفيها مدح ولي عهد أبوظبي ضيفه “البشير” بحضور عدد كبير من شيوخ الإمارات في كلمة مشهورة تناقلتها وسائل الإعلام العربية، وفيها قال :(أود أن أقول كلمة للتاريخ في حق فخامة الرئيس “عمر البشير”، عندما اشتدت الأمور في اليمن.. السودان وقف مع التحالف العربي من دون طلب.. هذا الرجال مو غريب علينا.. ومثل ما نقول في الإمارات (يا فازع) .. وهذا الموقف لن ننساه له.. و ح نخلفو على عيالنا وعيال عيالنا) .
في تلك الزيارة، كنتُ ألحظ أن علاقة الفريق “طه” بشيوخ الإمارات تجاوزت حدود المراسم والبرتوكولات، فبينما كان الوفد الرسمي لحكومة السودان ينحشر ضمن وفود الدول في زاوية ضيقة بصالون استقبال المعرض قبيل حفل الافتتاح، كان “طه” يمسك تارةً بيد شيخ “منصور”.. و يداعب تارةً شيخ “محمد بن زايد”.. ويهمس إلى شيخ “محمد بن راشد” !!
تراجعت أسهم الجنرال الفارع “بكري”، و(أحلّوت السلطة) – كما يقول المصريون- مع انهمار الدعم السعودي الإماراتي! وكأني بالرئيس وكاتم أسراره يتناجيان ثم يتساءلان :(بعد ما لبنت نديها الطير؟!).
في هذه الأثناء ، بلغ الصراع حول الرئيس أشده، بين تيار غالبه يرفض التجديد له في العام 2015م ، وتيار يرى ضرورة استمراره في الحكم حفاظاً على وحدة الحزب واستقرار الدولة .
في أكتوبر 2014م، انعقد مجلس شورى المؤتمر الوطني بعد اجتماع المجلس القيادي الذي رفع قائمة المرشحين لرئاسة الحزب ورئاسة الجمهورية، كما تنص لائحة الحزب .
كانت جلسات الشورى بقاعة الشهيد “الزبير” ساخنة، والمواجهة عنيفة، وقد تزعم “علي عثمان” تيار التجديد للرئيس منطلقاً من فكرته أن السودان بظروفه المعقدة لا يُحكم إلَّا لعسكري. غاب “البشير” عن الجلسات الأولى وجلسة الانتخابات، ويبدو أنه كان غاضباً لما بلغه من تصاعد الضغط داخل الشورى رفضاً لترشيحه في العام 2015م .
بعد نهاية الجلسات أعلن نائب رئيس الحزب البروفيسور “إبراهيم غندور” للصحفيين أن “البشير” فاز بأعلى الأصوات، وأن ترتيب المرشحين كان كالآتي: “البشير”، “بكري”، “غندور”، “نافع” ثم “علي” !!
غير أنني ذهلتُ بعد سقوط النظام عندما أكد لي قبل شهور، أحد قيادات الحزب، أن نتيجة انتخابات الشورى (الحقيقية) في العام 2014م كانت فوز “نافع علي نافع”.. و سقوط “البشير” !!
إذن .. ويا للعجب.. المؤتمر الوطني – نفسه- أسقط “البشير” قبل (5) سنوات من موعد الثورة السودانية في ديسمبر 2019م !!
نواصل غداً .