اللوحة التراجيدية السوداء على بساط قضية سد النهضة الأثيوبي تتراءى أمام الناظر كطيف يعزف من قريب المواويل الحزينة.. إنه خلاف طاحن لم يتبلور إلى حرب مستعرة بين مصر وأثيوبيا حول تعقيدات الوصول إلى الحلول الناجعة لإنهاء الإشكالية العاتية في ملف مشروع سد النهضة.. مازالت أثيوبيا تتمسك بمواقفها التفاوضية من خلال اللقاءات التي ضمتها مع القاهرة والخرطوم في ظل الرعاية الأمريكية، وها هي تقرر لوحدها مواعيد ملء وتشغيل السد، حيث حددت يوليو القادم 2020م، لتخزين (4,9) مليارات متر مكعب من المياه واختبار توليد الكهرباء في مارس 2021م، في حين أكد خبراء مصر الفنيون أن هذا الإجراء الأثيوبي يشكل ضرراً بليغاً بحصة مصر من مياه النيل البالغة (55,5) مليار متر مكعب سنوياً من المياه.. فالحجة الأثيوبية مبنية على البعد الوطني والنغمة المرتبطة بالشعوبية الداخلية بالأثيوبيين مصحوبة بقدرتهم في النهوض والتعمير بإنجاز السد، بينما مصر ترتكز حجتها على الحقوق التاريخية والدولية المائية زائداً القيمة الحضارية والإنسانية والحياتية التي يقدمها سليل الفراديس لمصر ودول الحوض، وقد تأزمت الإشكالية عندما تغيبت أثيوبيا من حضور الاجتماع الحاسم لطي الملف الذي حدد له فبراير المنصرم 2020م بأمريكا، وقد كان رد الفعل من جانب القاهرة قيام مصر بالتحركات الدبلوماسية الواسعة على النطاق العربي والأفريقي والدولي، بينما اتخذ السودان موقفاً متحفظاً من الخطوة المصرية، الشيء الذي جعل القاهرة تعزز رؤيتها بانحياز الخرطوم إلى جانب أثيوبيا، فالواضح أن العلاقة المصرية السودانية في قضية سد النهضة تتخللها الشكوك والهواجس ولم يسجل وجود أي تنسيق واضح بينهما على الوجه المطلوب، وقد تلاحظ بأن الخرطوم تأخذ منحنى بعيداً عن الرؤية المصرية في قضية السد وقد لاح ذلك في منهج نظام “البشير” وحكومة “حمدوك”.
الشاهد أن مياه النيل بالنسبة لمصر تعتبر مسألة حياة أو موت لا تقبل المساومة والتدليس، فقد ظلت مصر على مر التاريخ هي الدولة التي ارتبط اسمها بالنيل من خلال الذاكرة الحضارية والإنسانية والتاريخية، قد تصبر مصر كما يقولون كثيراً لأي خطوة تحاول المساس بحقوقها الاعتبارية في مياه النيل، لكنها في نهاية المطاف لا تتأخر في استرداد حقوقها المائية التي هي من صنع الله مهما كانت الكلفة والفواتير.
مشروع سد النهضة الأثيوبي سوف يكتمل بناؤه بحسب تقديرات أديس أبابا في عام 2023م، حيث أثار قيامه ضجة كبيرة في القارة الأفريقية والمحيط الإقليمي والدولي دقت فيها طبول الحرب الدبلوماسية والاستخباراتية وربما تدخل الحرب الأخرى، فضلاً عن الإرهاصات المخيفة التي أفرزها قيام السد في المنطقة، علاوة على ذلك فقد جسدت معركة حقوق مصر المائية أمام أثيوبيا قضية مهمة وإستراتيجية على الأصعدة كافة، وهي منازلة تمثل نبض الحياة في مخيلة المحروسة.