إذا كان بإمكان المراويد سحق جبل الكحل.. فإن في ذلك ما يفسر لنا ماجرى لجبل الاقتصاد السوداني، لقد تم تجريفه بعنف وبدون رحمة ببلدوزرات دولية عملاقة.. بنفس طريقة تجريف جبل (طورية) .. إن صمود السودان إلى الآن وبقاءه حياً وواقفاً، ولم (يبرك) رغم المؤامرة الكبرى لهي إحدى الأعاجيب..
دعك عن الكساد وأرقام الفساد.. دعك عن الفشل الرسمي.. والإحباط الشعبي.. فكل ذلك يبدو شيئاً هيناً كالمزاح بجانب التدمير الدولي الممنهج، والتخريب الإقليمي المخطط له باحترافية..
لقد كان على حكومات الإنقاذ لو كانت تخاف ربها، أو تحترم شعبها أن تعالج أمر العمالة الأجنبية التي ملأت البلد.. وضايقت شبابنا في رزقهم القليل من مهن ووسائل كسب عيش.. وأغلب الوافدين هم خبراء في (عصير القصب) وصناعة الطعمية والشاي المخلوط بالشاشمندي.. لقد سمحت الدولة لكل قادر على المشي على قدمين أو ثلاثة، بأن يدخل للسودان دونما أوراق ولا هوية.. وأن يأكل ويشرب ويتناسل ويعمل ويحول ما جناه بالحلال أو بغيره إلى عملات صعبة.. بداية من الشغالات في المنازل، وبائعات الشاي والفول المدمس، أو الأحجبة الجالبة للبخت.. وهؤلاء جميعاً يعيدون تقييم رواتبهم تبعاً لحركة الدولار في السوق.. ويقوم خبراء الشاورما والفلافل والعصاير بتحويل الملايين للخارج.. جاعلين من الاقتصاد السوداني أكبر ساقية جحا في القارة السمراء.. ومعيدين تطبيق تجربة جبل طورية على بلادنا بطريقة اقتصادية.. وفي غضون ذلك تفتق لصوص كبار، في نظامنا البائد عن خطة باعوا بها شركة ناجحة رابحة، وهي شركة (الهاتف السيار).. قبض اللصوص الثمن، وقبضنا الريح، وقبض الأجانب الربح.. ومن يومها وفيروس (كورونا) الخليجي يضرب عملتنا الوطنية بدون رحمة.. ومن أول ستة أشهر بدأ الانهيار، وخرجت مصارف عدة عن المقاصة، وتوقفت صحف كثيرة وقنوات تلفزيونية جراء بيع (موبيتل).. وتم تجفيف الإعلان عن الصحف، أو خفض قيمته.. لقد تحولت خدمة الجوال إلى أكبر (دراكيولا) في تاريخ الاقتصاد الوطني.. وصارت الشركات الهوائية تشتري العملات الحرة بأي ثمن، وتتاجر في الحاصلات النقدية.. ويا له من مصاص دماء أسطوري..
إن الدول التي أرسلت نصف رعاياها لاجئين في السودان، ليأكلوا ويشربوا من مائدة الدعم السوداني، كانت بالمقابل تستقبل مئات من شاحنات (زد واي) العملاقة المحملة بالمواد المدعومة من جيب الحكومة.. أولها في الحدود الهاملة وآخرها في كرش الفيل، أو جزيرة الفيل..
مددت حكومات الجوار السوداني السعيد رجليها، وهي ترى المواد المستوردة برزق السودان القليل من العملات الصعبة، تصلها غنيمة باردة.. فكل دولار ينجو من غول الاتصالات، لن يفلت من قبضة التهريب أو تحويلات خبراء الشاي و(الشاش) والشحدة، وعصابات التسول العابرة للحدود..
ثم دخلت لمشروع التعدين السوداني – البديل عن البترول – شركات تعدين أجنبية مجرمة، صارت تشتري بالجنيه كل ما يحصده التعدين الأهلي من ذهب في خسارة مركبة.. ووصلت طلائع معدنين خبراء في التعدين والجريمة من أطراف القارة.. ولم تتطوع أي جهة بالتحقيق معهم.. لقد كان الذهب نعمة على دول الجوار.. فبعد أن شبعت عواصمها من مائدة الدعم السوداني.. ملأت جيوبها من الذهب السوداني.. بينما فتح النشامى مطار الخرطوم على مصراعيه للصوص الذهب..ليسافر عبر الطائرات النفاثة إلى دبي.. ليباع المعدن الغالي بأسعار رخيصة..
لقد أرخصوا قيمة وطنهم.. فأرخصهم مشايخ البترودولار..