الخرطوم ــ الطيب محمد خير
طفت في المشهد السياسي كثير من القرارات والمواقف التي اتخذتها الحكومة الانتقالية وأدخلتها في مطبات الانتقادات بالجدل الذي تثيره وسط الرأي العام بين مؤيد ومنتقد لها، وسرعان ما يتم التراجع عنها بنفيها، وفي بعض الأحيان يتم تعديلها لكن لا أحد يعرف العراب الذي يقف خلف هذه القرارات التي يبدو من التعاطي معها في أوساط مكونات الحكومة المسارعة بنفي كل طرف عمله بها بأنها غير مدروسة، ومتعجلة وغير مؤسسة على توافق بين مكونات على تلك القرارات، بما يجعل السؤال هنا مشروعاً عن تفسير التراجع عن القرارات التي يتم اتخاذها بتعديلها أو نفيها هل هناك صراع مكتوم بين مكونات الحكومة الانتقالية أدى لهذه العشوائية في اتخاذ القرارات، أم هو من باب الاعتراف بالخطأ فضيلة؟. واضح أن الحكومة في هذا الوضع أسيرة لردة الفعل من الرأي العام.
وسط هذه الحزمة من القرارات والمواقف غير المدروسة يتصدر موقف السودان من مفاوضات سد النهضة الذي يكتنفه الغموض باستمرار ظهور السودان في طاولة مفاوضات سد النهضة في مقعد الوسيط بين الدولتين، وهو المقعد ذاته الذي ظل يشغله منذ فترة النظام البائد لتحسين صورته لدى الإثيوبيين لمساعدته في فك (خنقة) المجتمع الدولي له، مما جعل الغموض يكتنف موقف السودان، فلا أحد الآن يعلم على وجه الدقة والتفصيل على ماذا يفاوض الوفد السوداني؟ ولوضع الإجابة المقنعة للرأي العام بتوضيح ما هي الأضرار التي تقع على السودان، وما المكاسب التي سيحصل عليها من هذه المفاوضات، وهل يتم تعويضه عن الآثار السلبية التي تنتج من قيام سد النهضة فهل يضيع حق السودان؟.
من أكثر القرارات التي واجهت انتقادات ورفضاً، وأثارت جدلاً لدى الرأي العام والشارع السياسي قبول رئيس الوزراء “حمدوك” خلال حواره مع الإدارة الأمريكية بإلزام السودان بسداد تعويضات الضحايا الأمريكان البالغة (10) مليارات دولار، وعندما اشتدت عليه حملة الانتقادات، قال مبرراً هذه الخطوة إنه قبل بها بعد أن وضعها الأمريكان شرطٌاً لإزالة اسم السُّودان من قائمة الإرهاب، اشترط هذا الشرط من قبل زيارة “حمدوك” لأمريكا بتسليم البلد للأمم المتحدة، وأنَّه (خَفَّضها) لملايين.
وتظل قضية تعيين الولاة من أكثر النقاط إثارة للجدل، بتعدد التصريحات المتناقضة بشأنها، وكان آخرها إعلان وزير الإعلام، الناطق باسم مجلس الوزراء “فيصل محمد صالح” عن تعيين الولاة المدنيين خلال أسبوع. وقال إن وزير الحكم الاتحادي توصل لاتفاق مع حركات الكفاح المسلح في “جوبا” بنقل السلطة من الولاة العسكريين إلى المدنيين، وهذا ما نفاه عضو مجلس السيادة الفريق أول ركن “شمس الدين كباشي” عضو وفد الحكومة المفاوض، في تصريحات صحفية. وقال: (لن يتم تعيين ولاة ما لم يتوافق على ذلك بين الطرفين). وطالب بالتفريق بين الحكومة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير.
وتصدر لقاء رئيس مجلس السيادة الفريق “البرهان” برئيس الوزراء “نتنياهو” الذي قابله طلب “حمدوك” من الأمم المتحدة وضع السودان تحت الفصل السادس، وكلاهما لم تكن أي من الحكومات السابقة منذ الاستقلال لتجرؤ على الإقدام عليه، مما جعلهما أكثر إثارة للجدل لدى الرأي العام داخل السودان وخارجه، لكن سارع “حمدوك” بالقول إن الرسالة التي بعث بها إلى الأمم المتحدة، بخصوص طلب ولاية المنظمة الدولية على عملية السلام فى السودان بما يُمكنه من تحديد ماذا يريد من الأمم المتحدة التي جاء ردها على الطلب خلال لقاء وزير الدولة بوزارة الخارجية بوكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام، التي قالت إن الأمم المتحدة موجودة في السودان عبر بعثة “سياسية” خاصة، تنتهي بانتهاء الفترة، بينما قبل الاجتماع المشترك بين السيادي ومجلس الوزراء الاستمرار في تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
ويُعد قرار رفع الدعم عن المحروقات غير المرئي الذي وضح أنه سيتم بالتدرج بطرح الوقود التجاري مع تصاعد وتيرة المخاوف وسط جميع طبقات الشعب السوداني من المستقبل بالمؤشرات غير المرضية التي يظهرها كلام المسئولين غير المطمئن، ولا يبشر بخير، ويفهم من كلامهم عدم التفاؤل، بينما بدت الحكومة كأنها مشغولة بالاقتراض من الخارج متجاهلة الطريق الذي رسمه وزير المالية في أول حديثه له عقب أدائه القسم، بحث الناس على العمل وزيادة الإنتاج والإنتاجية، وظل وزراء القطاع الاقتصادي في حالة نفي دائم لكل التكهنات والتوقعات السالبة التي تظهرها قراراتهم التي يعدها الرأي العام ويصنفها في خانة القرارات غير المدروسة، والقرارات التي أصدرتها الحكومة تسببت في استمرار معاناة الطبقات الضعيفة، وأكثر تحفيزاً لتصاعد حالة الفوضى التي تضرب الأسواق.
وفي خطوة مفاجئة تصدر أخبار الصحف والوسائط خبر مفاده أن الحكومة الانتقالية أبرمت اتفاق بإيجار ميناء بورتسودان لدولة أجنبية بمبلغ (250) مليون دولار، وهو ما سارع وزير البنى التحتية والنقل المهندس “هاشم طاهر” بنفيه، قاطعاً بعدم وجود أي اتفاق بين الحكومة ودولة أوروبية لتشغيل الموانئ البحرية بمبلغ (250) مليون دولار، أو إيجارها، كما تم تداوله مؤخراً. وقال إن أي اتفاق حول الموانئ ينبغي أن يمر عبر وزارة النقل، وأنه التقى رئيس الوزراء قبل سفره، ولم يخبره عن أي تفاق حول الموانئ البحرية.
ومن أكثر الأخبار إثارة للجدل والانتقاد ذلك الخبر الذي تداولته أكثر من صحيفة، كشفت فيه عن خطاب صادر عن وزارة الطاقة والتعدين موجه إلى شركة (الفاخر) للأعمال المتقدمة، يقضي بمنحها استيراد (الجازولين والبنزين وغاز الطبخ) وفق برنامج محدد. وأشار الخبر إلى أن وزارة المالية قطعت شوطاً في التفاوض مع الشركة لتمكينها من استيراد القمح، ومثار الجدل أن وزارتي المالية والطاقة منحتا شركة (الفاخر) العطاءات دون طرحها في عطاء مناقصة عامة.
وقال أحد قيادات قوى الحرية والتغير لـ(المجهر) ــ مفضلاً عدم ذكر اسمه ــ إن الكثير من القرارات والتصرفات التي أقدمت عليها حكومة الثورة رغم خطورتها، ولكنها لم تقدم أي تفسير للرأي العام، وكثيراً ما تكون مجبرة للتراجع عنها أو تعديلها، مضيفاً أنه من أخطر الخطوات في طريق الدكتاتورية أن يبدأ الحاكم في تجاهل الشعب بعدم شرح قراراته وإصلاحاته، وهو يعتمد عليه كأرضية يقف عليها، لكنها سرعان ما تتحول لبركان من الغضب، لأن الحاكم يدير البلاد وقضاياها العليا وفقاً لتصوراته، ولا يلقي بالاً لأصوات الشعب وتطلعاته. وأشار القيادي إلى أن الربكة في القرارات والتصرفات التي نشهدها من المسؤولين في قمة السلطة سببها غياب التمثيل البرلماني الذي مهمته مراجعة الحكومة ومحاسبتها، ويقترح عليها الحلول التوافقية، وهذا يحتم الاستعجال بتشكيل جزئي للبرلمان المنتخب لإنهاء كثير من نقاط الخلاف، وإلا ستصبح الفترة الانتقالية كرة جليد متدحرجة تجرف كل الثورة.