كنا جلوساً في صيف عام 1997م في بهو فندق “ميكليس” الفاخر في العاصمة الزيمبابوية هراري.. كان الفندق الذي صنفته الفاينانشيال تايمز كأفضل فندق في أفريقيا متقدماً حينها على هيلتون أديس أبابا.. يستضيف أشغال قمة منظمة الوحدة الأفريقية، كانت الوفود الرئاسية تترى من كل أنحاء القارة.. ولفت انتباه الجميع وصول وفد يتقدمه رجل بلبسة اشتراكية ورأس ضخم وحليق.. وقيل لنا أنه “لوران كابيلا” رئيس الكونغو الجديد.. وكان الديكتاتور الكونغولي “موبوتو سيسيكو” الذي حكم كنشاسا لفترة طويلة قد أطاحه للتو تحالف القوات الديمقراطية بقيادة “كابيلا” … وكانت تلك هي المرة الأولى التي يطأ فيها “كابيلا” البساط الأحمر.. تربى “كابيلا” على أفكار “لوممبا” و”بن بيلا” و”نكروما” و”ناصر” و”نايريري ” وعاش أجواء حركات التحرر.. وهو من جيل يقول عنه “الصافي سعيد”: ( نام طويلاً في الايدولوجيا ونهض متأخراً متحمساً للعمل) .. وبرغم يسارية الرجل التي تفترض قربه من “جون قرنق” و”موسفيني” إلا أنه وجد أخلص حلفائه في الخرطوم، وليس في كمبالا أو أديس أو أسمرا.. وقد رحب الأستاذ “علي عثمان محمد طه” وزير الخارجية آنذاك في تصريح صحفي بالتغيير الذي جري في الكونغو .. وقال (إن السودان يمد يده بيضاء للقيادة الجديدة ونعتقد أن مشكلات القارة عموماً ومشكلات بلدينا متشابهة ولا تحل إلا عبر الحوار والتعاون) .. وقد كان أغلب المراقبين على نقيض “طه” على قناعة مستقرة بأن “كابيلا” سيكون إضافة كبيرة للتمرد بقيادة “جون قرنق”، مما سيعمق جراح
السودان، الذي لم تكن تنقصه الأوجاع.. لم يجد “كابيلا” من يقف بجانبه وهو يرث تركة ما بعد “موبوتو” الثقيلة، غير السودان.. لقد أدرك الرجل أن شعارات اليسار لم يعد هناك من يفهمها، ناهيك أن تجد من يشتريها.. كان “موسفيني” وقتها قد نشر كتابه (حبة خردل) والذي تم تعميده به رجل أمريكا في المنطقة، وهو الذي نام طويلاً في الايدولوجيا وفطم بحليبها، ولكنه سرعان ما أعلن توبته الامبريالية النصوحة.. ونصب نفسه سمساراً في السوق الأمريكية.. ومرشداً سياحياً لكل أفريقي راغب في السفر إلى ما وراء البحار.. يقول “موسفيني” في كتابه ( إن من الخطأ والخطورة أن تتحدث لغة لا يفهمها العالم.. وأن ترفع شعارات مخيفة.. إن المرحلة يجب أن تعتمد على الحس السليم الذي لم يفتقده الأفارقة رغم ضراوة القمع وقساوة الإقصاء..).. ويمضي إلى القول وكأنه يخاطب حكام الخرطوم الجدد محذراً من أي وصفات ماركسية لم تعد صالحة للعمل في أي مكان في العالم غير كوريا الشمالية.. ( إن ما يسمى بالتأميم كان بدعة شيوعية ودعوة للكسل.. وإذا كان السوق هو الذي يدفع إلى المنافسة والإبداع، فهو المقياس الحقيقي الوحيد للنجاح)..
إن السوق الذي قصم ظهر حكم الإنقاذ.. لم يوقع – للأسف- مع حكومة “حمدوك” اتفاق سلام بعد.