دعوات الإصلاح والمراجعة في حوار الفكر والسياسة
ما زال قطار ما أصطلح على تسميته (ثورات الربيع العربي) يغشى محطات عديدة الواحدة تلو الأخرى، ومنذ أن أشعل الشاب “البوعزيزي” جسده احتجاجاً على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان واستئساد فئة متسلطة حاكمة على رقاب الشعب، لم تنطفئ النار التي أشعلها “بوعزيزي” في (سيدي بوزيد) التونسية، إذ سرعان ما تطاير شررها عبر العواصم وساحات الاحتشاد والمواجهة حتى (اسقاط النظام).. الربيع العربي ما زال فصله يانعاً، فيما يرى البعض أن ثوراته لم تكتمل بعد.
الربيع العربي ثورات لم تكتمل بعد
قدمت دار أروقة للثقافة والفنون مؤلف الدكتور “مصطفى عثمان إسماعيل” (الربيع العربي ثورات لم تكتمل بعد) ليل الأربعاء بقاعة الصداقة بالخرطوم، وسط حضور كثيف للمفكرين والساسة والإعلاميين وحضور لافت للسفراء وممثلي البعثات الدبلوماسية بالخرطوم، أما المعلقون على الكتاب فهم السيد “الصادق المهدي” رئيس حزب الأمة القومي والدكتور “عصام أحمد البشير” رئيس مجمع الفقه الإسلامي، بالإضافة إلى المفكر والأكاديمي الدكتور “عبد الله علي إبراهيم”، فيما أدار الأستاذ “علي شمو” الجلسة التي ابتدرها الأستاذ “السموأل خلف الله” بتدشينه لإصدارة دكتور “مصطفى”.
وأشاد الإمام “الصادق المهدي” في مستهل تعقيبه على محتوى الكتاب باهتمام المؤلف بالفكر، وهو رجل سياسي ومزاوجته ما بين الفكر والسياسة خلافاً لجمهورالساسة الذين قال إنهم إذا ذُكر الفكر أو الثقافة صدوا ملدوغين، ويصف “المهدي” هذه المزاوجة بأنها (قلق)، وذلك كما يقول بسبب أن الفكر يستوجب (المكاشفة التامة)، بينما تستوجب السياسة (المداراة) على نحو مقولة الإمام “علي” كرم الله وجهه: (ما كل حق يقال، وما كل ما يقال حضر زمانه أو حضر رجاله).
{ نقاط اتفاق واختلاف “المهدي” و”مصطفى عثمان”
قال الإمام “الصادق المهدي” إنه يتفق مع عشر نقاط وصفها بالمهمة وردت بكتاب الدكتور “مصطفى عثمان”، وزاد بأن عدّ المؤلف انتصر فيها للفكر بموضوعية، وهي أن البيئة السياسية في مجتمعات الربيع العربي كانت مواتية لتحريك الشارع (الظلم والاستبداد والفساد)، وأن الشعب من المحيط إلى الخليج ينشد الحرية والإصلاح، والشفافية والعدل، كما وافقه “المهدي” في أن الثورات لم تكتمل بعد باعتبارها لم تقض على الأنظمة التي فقدت رأسها وبقيت جذورها، وأيضاً في ما ذكره المؤلف حول التوجه الذي يحقق الاستقرار في بلاد الثورات. أما النقطة الرابعة التي اتفق معه فيها فهي ما أورده المؤلف عن إقحام الجيوش الوطنية في خطيئة الانقلابات العسكرية، حيث أفقدها ذلك الكثير من الاحترام وصورها صورة واحدة مع الأنظمة العسكرية القائمة على البطش والجبروت والحقيقة، يقول الإمام إن الانقلابات العسكرية وفقاً للشيخ “الألباني” مخالفة لنهج الإسلام وهي نهج باطل جملة وتفصيلاً.. الأمر الآخر الذي اتفقا حوله هو أنه مع دخول العام 2012م فقدت السلطة السياسية في البلاد العربية الكثير من هيبتها ومن شرعيتها السياسية، ويتضح أنها في طريقها لفقدان المزيد من الشرعية حتى لو لم تقع ثورة في مواجهتها في كل دولة. ونقطة أخرى هي أن هذا الحراك قد يخسر فيه الإسلام السياسي الكثير من قوته إذا فشل في التعامل مع الحريات والتنمية والحقوق الديمقراطية والجيل الثوري بمرونة وانفتاح، كما قد يكسب مزيداً من النفوذ والقوة إذا نجح في التأقلم مع مجتمعات حرة وبلاد متحولة وانفتاح حتمي. كما أن تمكين الشعوب سيؤدي إلى مزيد من التضامن الإسلامي، كما يُرجى أن تشهد الوحدة العربية هيكلة جديدة، ويُنتظر كذلك تطوير إستراتيجي في العلاقات العربية الأفريقية، ويُتوقع بالإضافة لذلك مراجعة جوهرية للعلاقات الدولية مع الغرب وفي ملف السلام ومع الدول الصاعدة (البريكس).. أما نقاط الاختلاف التي أوردها “المهدي” ولم يتفق فيها مع مؤلف (الربيع العربي.. ثورات لم تكتمل) فقد ربط المؤلف الصحوة الإسلامية بهزيمة 1967م، وقال “المهد” إن ما قال به المؤلف أمر ليس بالصحيح، فالصحوة الإسلامية وفقاً لـ”المهدي” بدأت منذ تراجع الخلافة العثمانية في مرحلتها الأخيرة، حيث تراجعت أمام الثقافة الأوروبية ومالت نحو الهوية الطورانية، وإن ثورات كثيرة على رأسها (الثورة المهدية) في السودان جسدت تطلعات أهل القبلة في ذلك الوقت ما عبرت عنها نظرياً مجلة (العروة الوثقى)، من مدرسة (العروة الوثقى) إلى الشيخ “رشيد رضا” والشيخ “عبد الحميد بن باديس” وغيرهما حتى الشيخ “حسن البنا” الذي ساهم في في الصحوة الإسلامية التي أثارها ما فعل (الكماليون) في تركيا بإلغاء الخلافة التي كانت أصلاً محتضرة، ولكن إعدامها أحدث هزة في أوساط إسلامية. ولم يتفق “المهدي” مع مقولة الكاتب حول الإشارة إلى أن التيارات الإسلامية تأتي في مقدمة القوى التي قادت ثورات الربيع العربي، وقال إن ذلك ليس صحيحاً، فقد قادت الثورات عناصر شبابية غائبة عن (رادارات) الأجهزة الأمنية، لكن دور التيارات المنظمة أتى بعد أن تأكد أن السلطة الحاكمة قد اهتزت، ويقول أيضاً إن الذي يصنع الفوضى هو أن النظم الاستبدادية تحجر التطور السياسي بأجهزة قمعية قوية، ولكن لسوء سياساتها ربما سقطت بثقل أخطائها وبفعل عناصر منفعلة ضد الظلم ولكن بلا هياكل قيادية وبلا برامج. أما إعلان العجز عن تحليل مؤلف الكتاب لما حدث ومقولته (إن الثورة كانت ثورة ربانية) فذلك ليس صحيحاً وفقا للإمام “الصادق المهدي”، الذي يضيف هنا إن الذي وهبنا العقل يلزمنا استخدامه لفهم الظواهر الاجتماعية، ونعم نحن وعقولنا وما حولنا من إرادة الله ولكن تلك قضية تتعلق بالفلسفة لا تمنعنا من نسبة تحليلاتنا لاجتهاداتنا البشرية، ويستدل الرجل هنا بتوقعه لحدوث انفجار ما لم يحدث حوار بين الحكام والشعوب، وتوقعه لحدوث ثورة في (مصر) حين سأله في القاهرة المفكر “المحبوب عبد السلام” في العام 2009م عن توقعاته- “المهدي”- لما يمكن أن يحدث في ذلك البلد العربي. وفي ختام تعليقه لم يوافق الرجل أيضاً على التدخلات الغربية كأهم خطر على التجربة الثورية العربية، وقال إن الخطر الأكبر عليها هو التحدي الأمني والتنموي وإدارة التنوع في إطار الوحدة الوطنية، فإذا أخفقت في ذلك فإن هذا سيتيح الفرصة للثورة المضادة، التي قال “المهدي” إن لها أربعة مراكز هي الدولة العميقة والمجتمع العميق والأسرة الإقليمية العميقة، بالإصافة للأسرة الدولية العميقة.
{ الدكتور “عصام أحمد البشير”
بدأ تعليقه بما سمّاه (تحرير المصطلح) وقال إنه يختلف مع السيد الإمام الحبيب- هكذا سمّاه- “الصادق المهدي”، الذي عزا كلمة الربيع إلى التفسير الغربي، حينما (صوّب) مصطلحين، الأول عبارة (الربيع العربي) التي قال “المهدي” إنها مشتقة من الطقس الأوروبي الذي فيه الربيع يعقب ظلمة الشتاء، وقال الأصح عندنا عبارة (الفجر) فسمّى الظاهرة (الفجر الجديد)، وقال الدكتور “عصام”: الربيع في لغة العرب يقال (أربعت الأرض إذا ازدهرت واخضرت ونمت)، فالربيع- يضيف- هو الخضرة والنماء والكثرة والازدياد، والربيع يأتي بين قسوة الصيف وزمهرير الشتاء، ولذلك هو يتسق مع كونه (فجراً) لأنه ينقل الإنسان من طقس افتقد حال الاعتدال إلى طقس يقود إلى تحرير الوسطية والاعتدال، و”المهدي” هو رئيس المنتدى العالمي للوسطية والاعتدال، وأحسب أن في ذلك من النسب ما هو معلوم، وأضاف: أتفق مع “المهدي” في ما أشار إليه في مصطلح (الإسلام السياسي)، فالإسلام إسلام واحد بيد أن فهم البشر لتجليات هذا الإسلام في مصادره الربانية وإسقاط هذا التجلي على أرض الواقع هو من كسب البشر، الذي يطرأ عليه سائر ما يطرأ على الحادثات من النقص والقصور والتجديد، والذي يحتاج إلى تصويب دوماً وإلى استدراك، لذلك المعنى صحيح أنزلهم على حكمك ولا تنزلهم على حكم الله ورسوله، فإنك لا تدري أصبت حكم الله أم لا، فهنالك فرق بين أن يقال حكم الله الذي يقتضي التسليم، وبين أن يقال هذا فهمي لمراد حكم الله الذي هو حكم بشري قابل لأن يُستدرك وأن يُصوّب وأن يُراجع، ويصف دكتور “عصام” الكتاب بأن طابعه كان وصفياً في غالب فصوله لا سيما فيما يتصل بالعلاقات الدولية، ولم يجنح كثيراً إلى المعالجة النقدية أو المقاربة في الإسقاط الواقعي لرؤى التاريخ الأمر الذي يساعد أن نأخذ من عبرة التاريخ ما نصوّب به الواقع.. الأمر الثاني في المقاربة المتعلقة بالعلاقات الدولية، لم يشر إلى الأسس والمعايير التي تنطلق منها العلاقات الدولية من المنظور الإسلامي، ويحدد دكتور “عصام” هذه الأسس في (الإيمان بتعددية الخلق)، أي الإيمان بالتعددية الدينية والحضارية والفكرية والثقافية والمذهبية. التصور الإسلامي يقوم على ركيزتين (تعددية الخلق) و(وحدانية الخالق)، وفي قضية الربيع العربي قال إن الثورات تنشأ إذا انسد أفق الإصلاح وسنن الله تعالى لا تحابي أحداً من راعها راعته، ومن حفظها حفظته، ومن ضيعها ضيعته، لا يوجد حزب أو جماعة أو تيار لديه (شيك على بياض)، الإصلاح سنة وفريضة وضرورة دينية وفريضة واقعية، ومن لم يبادر بالإصلاح سيبادره الإصلاح، وسنة التغيير لا تحابي أحداً، لذلك ننظر إلى هذه الثورات في إطار اختلال هذه السنن، ولذلك التاريخ عرفنا كما قال العلامة “ابن خلدون” (الظلم مؤذن بخراب العمران). إذن فالمعيار ليس هو حق القوة إنما (قوة الحق)، ودل ذلك على أن الأنظمة والحكومات التي تعتمد على حق القوة بطشاً وقهراً وطغياناً واستحكاماً فإن القوة سرعان ما تتهاوى، هذه القوة حينما ينكسر الحاجز أمام إرادة الشعوب يتهاوى كل هذا، والتاريخ عرّفنا هذه الحقيقة. ونحن أمام منطق أن قوة الحق قد استعلت على منطق حق القوة، وهذا أمر ينبغي أن ندركه، وأن القوة الحقيقية إنما تكون في قوة الحق والعدل والرحمة والتراحم بين الحاكم والمحكوم في ظل العقد الاجتماعي وتنشأ من بينه الحقوق والواجبات.. ويواصل الدكتور “عصام أحمد البشير”: إن هذه الثورات التي حدثت ساهمت فيها كل قوى الأمة على تفاوت في مقدار النسب بين مكونات المحركات الشعبية، الربيع العربي فيه (إرادة التغيير)، و(إدارة التغيير)، فهي حققت الشق الأول. التحدي أمام التيار الإسلامي الذي وصل عبر صناديق الاقتراع هو تحقيق شراكة مع كل الشعب، ويجب أن لا ينفرد (التيار الإسلامي) أو أي تيار آخر نال ثقة الشعب بتقرير مستقبل مجتمعه منفرداً، وإنما من خلال شراكة على قدم المساواة بينه وبين مكونات المجتمع، وهذا شرط ضروري لتحقيق الطمأنينة والاستقرار الذي ننشده لمجتمعاتنا.. في (مصر) التخندق حول الإطار الحزبي الذي لم يستوعب كل مكونات المجتمع يمكن أن يذهب بمقدرات الثورة المصرية، لابد أن نتحرك بفقه الممكن، وهذا ما ينبغي أن يتحرك فيه (الإسلاميون)، وما يواجهنا كإسلاميين هو المثال الذي نجسده على أرض الواقع، كما لا توجد حلول معلبة للقضايا، ونحتاج إلى الاجتهاد الجماعي.. هنالك تحدي الغلو الديني الذي بدأ بالتكفير وانتهى بالتفجير، والغلو العلماني الذي بدأ بالتخدير وانتهى بالتدمير وكلاهما وجهان لعملة واحدة، ولابد أن نصل إلى منطقة وسطى تواجهنا أيضاً كمجتمع مسلم تمدد المذهبية الدينية.
{ المفاهيمية في السياسة
في تعليقه على ما طرحه دكتور “مصطفى عثمان” في كتابه قال الدكتور “عبد الله علي إبراهيم” إن المؤلف يتحدث في مسائل السياسة بطريقة (مفاهيمية)، وذلك أنه قدم مفهوم (الفوضى الخلاقة)، حيث حاول عن طريق هذا المفهوم أن يدرس ظاهرة (الربيع العربي)، وقدم أيضاً مفهوم (المجتمع العميق)، وقد قلّ مثل هذا النظر عندنا، وقلّ الحديث بالمفاهيم، وثانياً جرى الانقطاع طويلاً عن الأكاديمية الغربية وبذلك صار المثقف عندنا في حالة من العزلة لأن التجديد يحدث هناك، ليس بالضرورة ولكن هذه أحكام الدنيا. ويضيف الدكتور “عبد الله”: يعتقد المؤلف أن تعريف (الفوضى الخلاقة) أنها فوضى الاستقرار يشعر بها المواطن فاغرة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، ومتى اتسعت هذه الفوضى ولدت إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع فتزعزع الاستقرار. والغربيون يتدخلون فيقولون إن واجب أمريكا وغيرها أن يسدوا هذه الفجوة، ثمة مكسب من استخدام المفاهيم. المسألة الثانية- يواصل دكتور “عبد الله علي إبراهيم”- هي مسألة (الدولة العميقة) التي أشار إليها السيد “الصادق المهدي” وهي متى ما أزيل الرأس (الفرعوني) لنظام ما، ظهرت للعيان (الدولة العميقة) التي كانت تحكم تحت ظل (الرئيس) و(أسرته) وكبار (زبانيته)، والتفكير بالمفاهيم لعبة أكاديمية ومعرفية من الدرحة الأولى.. المسالة الأخرى هي التفاتة المؤلف إلى دور (الأزهر) في مسألة الربيع العربي، ومتى التفت إلى الأزهر بدا دور المسجد القديم في النضال العربي والإسلامي، وهو دور غير مقيد بالربيع العربي، وللأزهر أدواره الكبيرة، وددت لو أن جسوراً اتصلت من الخبرة التاريخية للمسلمين والعرب مع خبرتهم المعاصرة، وأنا لم أشعر بهذه القناطر في جزئي الكتاب.. وفي ختام حديثه قال الدكتور “عبدالله” إن إسرائيل ليست هي العدو، إنما العدو هو النظام الرأسمالي الإمبريالي الذي أفرزها، حسب وصفه.