الديوان

الحدادة "أم هانئ"… من ورشة (المحبة) تبدأ الحياة!!

قال الروائي “غابرييل غارسيا ماركيز” في (رائحة الجوافة): (ما دمت مع امرأة فلن يصيبني مكروه)، وهذا ما قاله لي بطريقة أخرى، ربما أقرب إلى (ما دمت أعمل مع امرأة فلن يصيبني مكروه) عمال ورشة (المحبة) للحدادة الكائنة بسوق (حلايب) بأم درمان، ولأن بإمكان المرء أن يُحول (نتن) المناخ السائد إلى ما يقترب من (رائحة الجوافة)، مثله ما تقوم به صاحبة تلك الورشة ومعلمتها الأولى السيدة “أم هانئ” كل يوم في ورشتها التي تحمل اسم (الحب)، فدعونا ندخل إليها ونحن نحمل من أقواس “ماكيز” بقدر ما تحمل لافتتها من “محبة” وعمل دؤوب يعكس قدرة المرأة السودانية على تجاوز تلك المقولات المعلبة التي نسميها بالضعف وقلة الحيلة والهوان بين الناس، فإلى الورشة:
سيرة مبكرة وراهنة
لم يدُرْ بخلد “أم هانئ” قط أن قدرها سيرمي بها يوماً ما في (ورشة حدادة)، لكن كثيراً ما تختار (المهن) من تريد من الناس، لذا جاءت الحدادة إلى “أم هانئ” طائعة تجرجر لحامها وحديدها وطلاءها، تبادلا حباً بعشق فوضعت على باب ورشتها لافتة شاعرية كتبت عليها (المحبة)، وهنا في ورشة المحبة تصنع “أم هانئ خوجلي بشير” أسرِّة تحملها (أرجل) على هيئة ورود، وأشياء أخرى تفيض جمالاً وتفوح شذى، رغم بأس الحديد.
تقول السيدة “أم هانئ”، معلمة الورشة: أنا من مواليد كرري العجيجة، تزوجت وأنا صغيرة كعادة الناس زمان، وأنجبت (5) أولاد بينهم بنات، وأضافت: وفي غمرة الصراعات اليومية مع الحياة وتربية الأولاد، قرر زوجي الهجرة إلى (العراق) ولم يعد، وظللنا ننتظره سنوات طوال حتى بلغنا خبر رحيله، وهكذا وجدت نفسي أمام واقع لا يصلح سوى التعامل معه بجدية، فقررت العمل ولا شيء غير العمل.
طلاء أكثر من (20) سريراً في اليوم
واستطردت “أم هانئ”: كنت اشتري بعض الأشياء (المكسرة) وأذهب إلى (الحداحيد)، وأعيدها إلى سيرتها الأولى، فتغدو كما كانت عند صنعها، ثم أجول بها لأبيعها للناس. تواصل: فجأة خطرت لي فكرة، لماذا لا أفتح (ورشة) حدادة خاصة بي، وبعد مشاورات مع الأهل عسيرة ومتواصلة، توكلت على الله فكانت هذه الورشة التي أمامكم، ومضت قائلة: كان دوري في ورشة المحبة يتراوح بين إدارتها وطلاء الأسرة والكراسي، حيث كنت (أضرب) أطلي أكثر من عشرين سريراً بالبوهية في اليوم الواحد، أفعل كل ذلك بينما أراقب عمالي وأرصد طريقتهم في العمل، من أخذ المقاسات إلى تقطيع الحديد إلى اللحام، وكنت كل يوم أتعلم شيئاً جديداً وفي صمت تام، حتى صرتُ حدادة محترفة، فعلمت أبنائي وزوجت بناتي بعد أن علمتهن الحرفة أيضاً.
الفي إيدو صنعة ما بتغلبو العيشة
ولدي البكر – تمضي “أم هانئ” قائلة: قرر بعد إكماله الثانوية الالتحاق بالورشة لمساعدتي، وهو يمثل الآن عضدي وساعدي الأيمن، وتضيف: أولاد كُتار لميتهم من الشارع بعد ما أجبرتهم ظروفهم وخلو المدارس وشغلتهم معاي هسي بقوا معلمين كُبار وبعضهم فتح ورش، يا ولدي الفي إيدو صنعة ما بتغلبو العيشة!!
 الحدادة على يد الحاجة!
كان حينها السيِّد “أحمد إدريس” ابن الحاجة “أم هانئ” يقف بجانب والدته مُفصحاً عن فخر واعتزاز كبيرين بها، وهذا بالضبط ما كشف عنه عندما تحدث إلينا قائلاً: أنا فخور جِداً بأمي، وحين كنت طالباً كنت أتدرب بعد الدوام المدرسي في ورشتها، فاكتسبت خبرات ومهارات كبيرة، وأضاف: كان أهل زملائي الطلاب يقفون إلى جانبنا ويطلبون أعمال الصيانة التي يحتاجونها من ورشة أمي، وكذلك كانت تفعل إدارة المدرسة، (تلحم) ما انكسر من كراسي هنا في (ورشة المحبة دي).
تواضع العظماء
على ذلك أكد “جمعة خضر”- عامل بورشة المحبة-  (ود الورشة) كما أطلق على نفسه على أنه تعلم الحدادة على يد الحاجة “أم هانئ”، وأردف: أنا بعتبر الحاجة دي أمي وورشتها بيتي، فهي التي علمتنا (الشغلانة)، وأن نأكل حلالاً من عمل يدنا، ولا نغش الزبون، وأن نعتمد على أنفسنا، ونشيل أهلنا ولا نمد يدنا إلى أحد.
وأنا أغادر ورشة المحبة بـ(سوق حلايب)، كانت السيدة “أم هانئ” وصبيتها يشيعونني بنظرات امتنان وحب، فكرت أهذا تواضع العظماء، أم طبع السودانيين؟ ووسوست: نحن ممتنون لك أيتها المعلمة الكبيرة والعظيمة، كم مثلك في هذه البلاد من الرجال والنساء بالله عليك؟

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية