يقول حكماء السياسة العارفون.. بأن رجال المعارضة العاتية والقوية تجدهم أكثر الساسة الفاشلين في مجال دفة الحُكم.. مثل هذه المعادلة المدهشة التي أثبتت العديد من التجارب صحتها، يرى الكثيرون بأنها تحمل شواهد تحتاج إلى التفكيك والتحليل على غرار نظرية العلوم الرياضية والفيزياء، وأنها تحمل مدلولات غامضة ومثيرة ومركبة من سحر غريب وعشم مربك، فلا شك أن المسألة تظهر على السطح عندما يلاحظ المرء وجود معارضة قوية وذكية ونشطة تحارب خصومها بلا هوادة ثم لا تحقق الأهداف المرجوة عندما تصل إلى الحُكم، علاوة على ذلك فإن الكثير من الصور تؤكد بأن المعارضين الأشاوس والذين لا يشق لهم غبار سرعان ما تتكشف سلبياتهم حين يصلوا إلى قطار الحكم ويصبحوا على دفة الصولجان والقرار السياسي.
أمامنا تجربة قوى الحُرية والتغيير والتي كان دورها معلوماً وملموساً في مصادمة حكومة الإنقاذ منذ احتجاجات عطبرة في ديسمبر 2018م، حتى الابتهاج الكبير بالنصر وبذات المنوال قادت قوى الحرية والتغيير معركة شرسة في مواجهة المجلس العسكري من خلال محطات كثيرة أبرزها تبني الاحتجاجات والمظاهرات في المدن والإضراب السياسي والعصيان المدني حتى تبلورت تلك المواقف القوية في التوقيع على وثيقتي الإعلان السياسي والدستوري، وها هي قوى الحرية تنتصر في المنافحة النضالية لكنها تتراجع إلى الوراء في أول إرهاصات الوصول إلى باحة الحُكم، حيث إنها قدمت قائمة الترشيحات لوزراء الفترة الانتقالية والمجالس المتخصصة للدكتور “حمدوك” رئيس الوزراء، فكانت النتيجة عدم الموافقة على هذه الترشيحات من جانب الدكتور “حمدوك” مما يعني وجود ربكة سياسية وضعف في التقديرات من جانب قوى الحرية، بل إن “حمدوك” لم يوافق على قبول النجم اللامع في قوى الحرية “مدني عباس مدني” في موقع رئاسة مجلس الوزراء.. فلماذا هذا التعثر من جانب قوى الحرية في إيجاد مواصفات الكفاءة والتجرد التي تحدثت عنها كثيراً في مرحلة الدعاية السياسية.. من الواضح لو أن قيادات قوى الحرية جلست على دفة الحكم في الفترة الانتقالية من خلال الشخصيات التي ظهرت في التفاوض والوسائط الإعلامية، فإنها كانت سوف تقدم نموذجاً ضعيفاً في قطار السُلطة لا يتماهى مع حيوية تجربة العمل المعارض الذي اتسم به نهجهم مع الإنقاذ والمجلس العسكري.
الشاهد أنه على صعيد الإنقاذ نفسها كان رجالها وكوادرها خلال فترة حُكم الإمام “الصادق” حاذقين في المعارضة نشطاء في كشف المثالب والقصور فكان إعلامهم مواكباً وقاسياً حتى جاء استيلاؤهم على السُلطة حيث ظهرت خيبتهم في تولي الحُكم خلال الثلاثين عاماً التي تحولت فيها البلاد إلى يباب.. هذه هي التجربة السودانية من اليمين إلى اليسار وفي الذهن العديد من التجارب المماثلة في الدول المجاورة.. ألم يقل الملك “الحسن الثاني” العاهل المغربي الراحل إلى جنرالات الجزائر عندما حرموا جبهة الإنقاذ الفائزة في الانتخابات من السُلطة اتركوهم يحكموا فإن تجربة السُلطة سوف تكشف حقيقتهم على بساط الواقع، فقد كانت الجبهة قوية ومنظمة في انتخابات الجزائر في ذلك الظرف، غير أن الجنرالات لم يهتموا بنصيحة العاهل المغربي حيث ندموا على ذلك.. هذه هي الحقيقة السياسية التي تبرز على السطح حيث يتبين ضعف المعارضة الشرسة حينما تتولى السُلطة، فما هو السر الدفين في هذه المعادلة السياسية الغريبة؟