رأي

فنجان الصباح

أحمدعبد الوهاب

أطلقوا سراح بروفيسور مأمون حميدة

في عيادته بشارع حوادث مستشفى الخرطوم وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام أخصائي الباطنية والمناظير والأستاذ بكلية الطب جامعة الخرطوم البروفيسور “مأمون محمد علي حميدة”، وكان وقتها أشهر من نار على علم كان ذلك في عام 1983م ..
العيادة الأنيقة كانت تحتل مبنى عادياً نشأ على أنقاضه فيما بعد مستشفى “فضيل” .. ولو لم أتسلح بتوصية من ابن عمي دكتور “محمد الطيب أحمد” إخصائي التحاليل الطبية لكانت فرصة مقابلتي لـ”مأمون” بدون حجز مسبق، تعادل فرصة دخولي لطائرة أير فرانس بدون حجز وتذكرة.. شاب تتوقد عيونه أدباً وذكاء من خلف نظارته الطبية..
وقف يحييني بحرارة ويسألني عن دراستي وعن أخبار صديقه.. وطفق يسألني عن ألم المعدة الذي أعاني منه.. ولأول مرة في حياتي أجد عناية واهتماماً من طبيب شاطر ونطاس قدير، بسماعته أنصت إلى دقات قلبي ولمواضع الوجع في معدتي وأجرى لي قياساً لضغط الدم وكان وجه الرجل الصبوح وحديثه المفعم بالحيوية واللطف يعطيك الإحساس بالعافية..كتب لي وصفة طبية ممتازة وطلب مني الحضور ثلاث مرات متتاليات، ورفض في كل مرة أن يأخذ أجراً، وكان يأمر سكرتيره بإعادة مبلغ المقابلة في كل مرة.
وسعدت بمعرفة الطبيب الفلتة، المتدين الذي حجز لنفسه مقعداً في المستقبل، ومكانة في قلوب مرضاه..
وظللت أرقب مسيرته العلمية والعملية بإعجاب منذ أن أصدر كتابه (حديث الأطباء) والذي أهداه لأستاذه بروفيسور “داؤود مصطفى” وحتى صار بذات الاسم برنامجاً تلفزيونياً عالي المشاهدة في زمن لاحق..
وسعدت لبروف “مأمون” وهو يتولى منصب مدير جامعة الخرطوم في ذلك الوقت العصيب، ولم يطُل به المقام حتى قاد معارضة شرسة، و صراعاً مريراً مع وزير التعليم العالي، إبان ما عرف بعودة الطلاب السودانيين في الخارج ، ليتم استيعابهم في مؤسسات التعليم العالي، بما فيها جامعة الخرطوم وما رافق سياسة التعريب وغيرها، وليتم فصله من عمله بصورة غير حضارية وهو في مهمة مع بعثة علمية داخل السودان .لا لشيء سوى أنه استمات في الدفاع عن جامعة الخرطوم رافضاً أضعاف الجامعة مصرّاً على بقائها جامعة معيارية لكل جامعات السودان.
وقد كنت أول من أجرى حواراً مع الرجل لفائدة جريدة ظلال التي كنت أرأس تحريرها في العام 1996م..
وكان حواراً خبطة .. أعلن فيه زهده عن تولي أي منصب عام ليتفرغ لإنشاء أول كلية خاصة للطب من شأنها ترقية العمل الطبي بالبلاد . وبدا لي وقتها أن الرجل يحلم ..ذلك أن كلية الطب تحتاج إلى مستشفى خاص، وتحتاج إلى مشرحة، ونقلت له رأي أحد زملائه بأن إنشاء كلية طب خاصة مهمة مستحيلة، كمثل أن يقوم ضابط شرطة أو جيش بالمعاش بإنشاء كلية حربية، أو كلية للشرطة، ابتسم وقال إنه يعني ما يقول، وأنه يحب دوماً أن يواجه التحديات، حيث تؤخذ الدنيا غلاباً.. ويتم قطف النتائج عنوة واقتداراً .. وكنت أول من أعلن ذلك للملأ ونشرتها كخبر مهم من دون أن يطالبني قسم الإعلان بقيمة النشر.. وهكذا نهضت للدنيا بفضل هذه الهمة العالية، والعقلية العلمية الكبيرة، والتجربة العملية الجهيرة جامعة مأمون حميدة (جامعة العلوم الطبية) التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وطورت المهن الطبية. فصارت إضافة كبيرة للتعليم العالي. .
إنني أضم صوتي لصوت الأستاذ “الهندي عز الدين” وأطالب بإطلاق سراح البروفيسور “مأمون” الطبيب الذي أهدى السودان جامعة كاملة للطب وعمراً كاملاً للإنسانية، ولما أجبروه على تولى الوزارة اشترط أن لا يأخذ راتب الوزارة ولا يركب عربة الوزير..
“مأمون” من بيت كبير، وعز موروث ، ومجد مركوز ، “مأمون” عين مليئة ثقة، وقلب مطمئن يقيناً، وعقل مليء علماً، إنني أتمنى أن تقوم (المجهر) الغراء وصاحبها بتدشين حملة قومية كبرى لإطلاق سراح بروفيسور “مأمون” العالم السوداني المفخرة والثروة القومية، وتكريمه وإعادة الاعتبار له ، فنحن أمة تعرف المعروف، وتعرف قدر العلماء وأقدار الرجال .

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية