شاهدت مقطع فيديو مقتبساً من قناة الشروق لشاب سوداني معاق بلا يدين، لكن المهارات التي قدمها لا يستطيع الأصحاء فعلها وهو يتكسب رزقه من بيع الرصيد وربما لحسن خلقه ولطفه أو ربما من باب تقديم الدعم والمساعدة فقد حظي بشعبية من الزبائن كبيرة وهم يتحلقون حوله، ثم أظهر المقطع كيفية تعامله ولعبه بأزرار ومفاتيح الهاتف في خفة يحسد عليها قبيل أن يعيده إلى جيب جلبابه. ليس ذلك فحسب بل ذهب أبعد وهو يجلس خلف مقعد السيارة ويقودها بحنكة واقتدار برجليه، أيضاً فهو يمارس إلى جانب عمله كافة النشاطات شأنه في ذلك شأن أصدقائه ورفقائه ولا أذكر أحداً أو جهة تداعب الكرة وتراوغها بخفة الفهود والسحرة سوى لاعبي السيرك. كذلك فلم يتقاعس هذا الشاب أو يتأخر عن أقرانه في شيء فدرس الكمبيوتر وعلومه بمدينة القضارف وأهدته الجهة الدارسة حاسوباً لتفوقه.. كل ذلك وغيره وهو لا يملك من الأطراف سوى رجلين فقط.
مهارات وقوة عزيمة هذا الشاب على قهر الإعاقة ذكرتني بسيدة فاضلة أيضاً بلا يدين كانت قد استضافتها ذات القناة (الشروق) ولشدة إعجابي بها وبصمودها عقدت العزم على زيارتها وقد كان بعد أن تحصلت على عنوانها بشرق النيل وقضينا معها ظهيرة لا مثيل لها، فهي إلى جانب ممارستها لحياتها بصورة أحسن منا كسيدات تتمتع بطيبة وبخفة روح تحول بينك والفكاك من مجلسها. وفي تلكم الظهيرة وبعد أن ضيفتنا بقهوة وشاي من صنع (رجليها) وبطريقة مبسطة كانون وفحم وهبابة. قامت بعدد من الواجبات المنزلية من غسيل وكنس للأرض، ومكواة ثم وفي كانونها ذاك قطعت شرائح بصلها وشرعت في الطبخ. كنت أرقب كل ذلك دون تدخل بالمساعدة كما أرادت وأغالب دموعي من أن تطفر وتحرجني أمام كمالها الذي تفوق على الخلق الرباني.
وفي الوقت الذي يكافح وينافح فيه هؤلاء وغيرهم من أولى الإرادة لمجابهة الحياة والسير فيها قدما جنباً إلى جنب مع الأصحاء في الوقت نفسه يتخذ الكثيرون في زماننا هذا من الإعاقة مطية للتكسب واستدرار الشفقة وعطف الآخرين.
والشاهد أنه ومنذ التاريخ البعيد هزم الكثير من المعاقين ليس الإعاقة فحسب بل حتى مقولة (العقل السليم في الجسم السليم) فانعدام السلامة الذي يتجسد ويصيب أي من جسم الإنسان وحواسه حول حياة مصابيه إلى واقع غير، تفوقوا فيه على الأصحاء، وقد حباهم الله إلى جانب إرادتهم مقدرات ومهارات جعلت أسماءهم تسمو وتعلق بمخيلة العالم أجمع. فالأسماء والرموز التي برزت في عدد من مجالات الأدب والثقافة والقيادة لا تحصى ولا تعد ومنها على سبيل المثال “موسى بن النصير” الذي كان أعرج، والأديب “الرافعي” الذي أصيب بالصمم، والأديب “طه حسين”، و”أبو العلا المعري” المصابين بالعمى، ومن عجب أن الموسيقار العالمي “بتهوفن” كان قد أصيب بالصمم، كذلك العالم البريطاني المعروف “ستيفن هاو كنغ”، كذلك الرئيس الـ(32) للولايات المتحدة “فرنكلين روزفلت” وغيرهم كثر، وعلى مستوى المبدعين المحليين الفنان “الشفيع”، و(حنان النيل)، و(آمال النور) وآخرين لا يعدون تجدهم في عدد من المجالات لم يركنوا أو يستسلموا، خصصت لهم مدارس ومعاهد بما يتسق مع إعاقتهم فانخرطوا في المجتمع أسوة بغيرهم.
حسناً أن جعلت لهم الدولة قانوناً خاصاً يحتكمون إليه وينصفون به، وخيراً فعل السيد الرئيس نهاية الأسبوع المنصرم بالجلوس إليهم في شارع النيل، تلكم الجلسة التي أحدثت حراكاً كبيراً وتعتبر بمثابة سند شرعي لهم ولمتطلباتهم التي استمع إليها بسعة صدر ووجه من فوره بمنحهم مبنى لإقامة المعامل المختلفة وعرض منتجاتهم، فضلاً عن التوجيه أيضاً بإعادة تأهيل مدينة العملاق، وغير ذلك من المنح التي تصب في مصلحة تسوية حياتهم،أعتقد أن ليس بعد ذلك شيء فقط نتمنى أن يتنزل كل ذلك قريباً على أرض الواقع وأن لا يكون ذلك محض انفعال عاطفي لحظتها.