ساقني الحديث مع أحد الأصدقاء من المنتمين للمؤتمر الوطني، والذي يستبسل أيما استبسال في الذود عنه، ويتلقى كغيره من شبابهم المخلصين لحزبهم كل ألوان السخرية والتنكيل الذي لا يخلو من سب وشتم بصدر رحب دون أن تضعضع هذه الإهانات من قناعاتهم بل تزيدهم إصراراً على ما هم فيه.. ورغم أن دردشتي معه كانت اجتماعية لكن يبدو أن الحس الدفاعي يلازمه أبداً ، تطرقنا في حديثنا للسفر إلى المدن بل الولايات وكيف أن المسافات باتت تطوى طياً للحد الذي يمكنك من العودة في ذات اليوم مقارنة بأوقات فائتة، فأمن على حديثي، وأضاف (بعد دا يقول ليك تسقط بس)، لم امنع نفسي من الضحك ورددت في خاطري (عاد الناس ح تأكل الظلط) .
صحيح إن واحداً من إنجازات الإنقاذ هو سفلتتها لعدد مقدر جداً من الطرق القومية وكذا الداخلية وربطها بالعاصمة والولايات الأخرى، وقطعت شوطاً بعيداً في هذا المنحى (وما عايزة أتكلم هنا عن بعضها غير المطابق للمواصفات والمقاييس العالمية لأسباب حمدها في بطنها) ، ما سهل حركة المسافرين وكذا البضائع وخلافه مما يصب في بند الاقتصاد لاسيما تلك التي تمددت واخترقت الحدود لتصل لبعض دول الجوار. وربما هو تطور فرضته الضرورة بل فرضه التقدم الحضاري الذي انتظم العالم أجمع، وليس من المعقول أن نبقى ولا نبارح محطتنا البدائية الأولى، فهو تمدن طبيعي بل لا زال ينقصه الكثير فما زالت بعض الطرق تعاني الأمرين.
قلت إنه صحيح أعلاه ، لكن هذا ومع ضرورته ليس بكافٍ لإرضاء وإقناع الناس فما يهمهم في المقام الأول توفير حياة معيشية تجنبهم الكفاف، وفوق كل ذلك توفير كافة الخدمات التي تعينهم على اجتياز ممرات الحياة وعقباتها. حياة كريمة منزهة عن أي استرخاص واستهانة بالآخر فلو توفرت كل هذه المتطلبات وأخرى لما كانت بلادنا على ما هي عليه الآن.
أخذني الحديث، وفي نيتي التركيز على السفر ما بين زمان والآن، وهو ما قال به الأستاذ “يوسف عبد المنان” في زاويته أمس الأول، فمثلما أفسدت التكنولوجيا طبيعة الحياة السهلة والفطرية وقتها، كذا أفسدت الطرق السريعة السفر ومتعته رغم العناء والرهق المصاحب ، لكنه كان محبباً لهم وما زالت ذكرياته قابعة بالذاكرة، كيف لا والرحلة كانت بمثابة اختبار للصبر، ومثابة منتدى ثقافي فكري كل يجود بما تقدمه قريحته وهم يكسرون صمت الليل عندما يشقون الفيافي والكثبان الرملية لا يهمهم رهق (دفر) اللوري إن وحل بالرمال فقد أعدوا العدة لذلك كما أعدوا أنفسهم لهكذا موقف. كانت الرحلة أحياناً تمتد لثلاث ليالٍ، وعندما خبروا دروباً أخرى تقلصت ليومين يقضونها في السمر وهم أهل المنطقة أو مناطق متجاورة يعرفون بعضهم ملياً. يحدث هذا في رحلتي الذهاب للعاصمة والإياب أما الأخيرة فقد كانت لوحدها طقساً قائماً بذاته، وأعني استقبال (السفار) هكذا يقولونها. أما صوت أبواق اللواري الذي يعبر عن وصوله مدخل المنطقة، فقد كان بمثابة بطاقة تعريفية لسائقه، إذ لكل منهم لونية ولحن صوتي بعينه.
عندما قيل إن البكاسي ستصبح وسيلة للسفر وقد تقطع المسافة في يوم كان ذلك أشبه بالحلم لكنه تحقق ثم أعقبه دخول حافلات النقل عقب إنشاء طريق شريان الشمال ثم ارتقى لدخول البصات السياحية لقطاع النقل للمناطق الشمالية حتى حلفا القديمة، ليس ذلك فحسب بل تطور الأمر ودخلت السيارات الملاكي وهو ما لم يكن في الحسبان إلى أن بلغ التغيير حد أن تسافر وترجع في ذات اليوم بحسب بعد أو قرب المنطقة..