فاطمة مبارك
تشهد الساحة السياسية السودانية حراكاً سياسياً بدأ منذ التاسع من ديسمبر من العام الماضي ومستمر حتى الآن ، وخلال هذه الفترة حدثت متغيرات وصفت بالكبيرة أفرزت واقعاً جديداً ، كانت أول ملامح هذا الواقع أن الاحتجاجات التي انطلقت في العاصمة وبعض الولايات كانت لأسباب مطلبية واضحة، ولهذا السبب اتفق فيها الجميع بمختلف أحزابهم وتوجهاتهم حيث شارك فيها اليسار كما شارك فيها بعض الإسلاميين بما في ذلك شباب حزب المؤتمر الشعبي المشارك في السلطة والمتمسك بوثيقة الحوار الوطني، متجاوزين لأول مرة قرار القيادة العليا ، بجانب مشاركة قيادات وشباب حركة الإصلاح الآن، وكان شعار كل هؤلاء (تسقط بس)، كذلك من المتغيرات أن هذا الحراك ينشط فيه شباب وجيل ما بعد ثورة الإنقاذ غير آبهين باختلافاتهم الفكرية والسياسية بقدر ما هم مشغولون بإسقاط النظام، وإنتاج تجربة الجيل الجديد، وهؤلاء نشأوا في زمن العولمة والتطور التكنولوجي ولديهم فهم واسع لمفهوم الحرية والعدالة والحكم الراشد، وكان لافتاً مشاركة بعض أبناء وبنات المسؤولين في السلطة في هذه التظاهرات.
بالنسبة للأحزاب والحركات كانت هناك متغيرات على مستوى المواقف لدى بعضها، وتابعنا خلال هذه الفترة خروج بعض الأحزاب والحركات التي كانت داعمة لوثيقة الحوار الوطني وانضمامها للحراك الداعي لإسقاط النظام تحت لافتة الجبهة الوطنية للتغيير، أبرزها حركة الإصلاح الآن بزعامة دكتور “غازي صلاح الدين”، وحزب الأمة – “مبارك الفاضل”، إلا أن هذا الجسم لم يجد الترحيب من الحزب الشيوعي باعتبار أن قياداته كانت مشاركة في السلطة سواءً على المستوى التنفيذي أو التشريعي، واعتبر الشيوعي خطوتهم هذه بمثابة إعادة لإنتاج النظام. لكن عدم الترحيب لم يثنِ قيادات الجسم الجديد عن الدعوة إلى إسقاط النظام ومواصلة التظاهرات.
بالنسبة للمؤتمر الشعبي كان قبل أكثر من خمس سنوات قد طرح ورقة في طاولة الحوار الوطني تحدثت عن ثلاثة سيناريوهات متوقعة للحالة السودانية، كان من بينها التغيير بطريقة ناعمة أو التغيير باستخدام القوة وحينها تبنى الحزب بزعامة الراحل دكتور “حسن الترابي” خيار التغيير السلمي بطريقة ناعمة أو كما اصطلح على تسميته التغيير من داخل النظام عبر طاولة الحوار الوطني، بحسب ما فهمه المراقبون للساحة وقتها، بينما تمسك الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي بإسقاط النظام، ولهذا السبب لم يشاركا في الحوار الوطني أو يعترفا بمخرجاته ، أما حزب الأمة القومي بزعامة الإمام “الصادق المهدي” فقد ظل ينادي بتغيير النظام سلمياً رغم أن لديه اتفاقات مع بعض الحركات المسلحة أصبح بموجبها الإمام “الصادق” رئيساً لقوى نداء السودان ، والآن حزب الأمة القومي أيضاً صار يتبنى شعار (تسقط بس).
بالعودة للمواقف نجد أن كل الأحزاب التقت في هذه الاحتجاجات عند خيار الحزب الشيوعي الذي رفعه منذ أيام تحالف قوى الإجماع الوطني وهو إسقاط النظام ، لكن رغم هذه المتغيرات السريعة في الساحة سواءً على مستوى المواقف أو المطالب إلا أن الحزب الحاكم لازال يقف في محطة ما قبل التظاهرات والمتغيرات الجديدة، وهذا الأمر لم يظهر فقط في تصريحات بعض مسؤوليه التي شابها التوتر والاضطراب، وإنما ظهر كذلك في خطاب حزب المؤتمر الوطني العام حيث ظل طيلة هذه الأيام يتحدث عن ضرورة الاستعداد للانتخابات ويؤكد أن الحكومة لا تسقطها المظاهرات، في حين أن المطلوب منه كان قراءة الواقع بدقة والتعامل معه وفقاً لمطلوباته، فمراقبون كثر يرون أن الأزمة بين الحكومة والمعارضة وصلت مرحلة تحتاج إلى خطاب ورؤية جديدة وبرنامج عبور سياسي واقتصادي، يقدم بموجبه المؤتمر الوطني تنازلات أساسية، مؤكدين أن الحوار الوطني رغم أهمية ما ورد في وثيقته لكن عدم تنفيذ بنوده أدى إلى حالة الاحتقان السائدة الآن.
مراقبون آخرون قالوا إنه رغم حديث قيادات المؤتمر الوطني عن أن هذه الأزمة اقتصادية لكن تم استغلالها سياسياً ، إلا أن هناك قضايا سياسية أدت إلى توتير الأزمة مثل إجازة قانون الانتخابات من دون أن تتوافق عليه القوى السياسية المشاركة في الحوار، بجانب تعديل المادة (57) التي تحدثت عن فترة رئاسية مفتوحة، وأشاروا إلى أن موضوع ترشيح “البشير” في 2020 م دق آخر نعش في الاستقرار السياسي، وللخروج من هذه الأزمة دعا هؤلاء إلى انفتاح سياسي وحوار حقيقي يشارك فيه شباب الحراك الحالي لمناقشة قضاياهم وأفكارهم، كذلك قالوا إنه لابد من الاتفاق على وضع انتقالي لتسيير أعمال برنامج العبور للحالة الاقتصادية والسياسية.
ومن جانبه أكد بروفيسور “عبد اللطيف البوني” أن التصعيد بين الحكومة والمعارضة سيقود إلى تأزيم الموقف وحينها التنازلات ستكون أكبر خاصة بالنسبة للحكومة، وقال إن الحكومة هذه المرة ستخاطب الشارع، ولنفترض ليس هناك غرف مغلقة ، يبقى السؤال ماذا تريد أن تقدم الحكومة للشارع؟، مضيفاً قوله:مطلوب مبادرة من الحكومة للشارع، وقد تكون الحكومة تلقت بعض الدعومات ومقرة بشكل من الأشكال بضرورة تقديم تنازلات، وإحداث تغيير، لكن السقوف ستكون عالية، واعتبر أن قضية تعديل الدستور ستكون من الأشياء القابلة للنقاش، مشيراً إلى أن الحكومة حتى الآن تعتبر المظاهرات لا تسقطها ، وما يحدث عبارة عن شغب قادرة على مكافحته.
وقال “البوني” إن يوم باكر سيكون هو الفيصل، مؤكداً أن أي طرف عمل الخطة ( أ) وعنده الخطة (ب).
“البوني” كذلك لم يستبعد حدوث سيناريوهات مختلفة مثل وقوع انقلاب داخلي أو صراعا على مستوى القمة، وقال قد يكون هذا واحد من أهداف المظاهرات وهو قيادة السلطة إلى اختلافات فيما بينها.
وأكد “البوني” في حديثه عبر الهاتف لـ(المجهر) أمس أن الوضع أصبح مفتوحاً أمام كافة الاحتمالات ومعالمه غير واضحة .
وبدوره طالب دكتور “صلاح الدومة” بتشكيل حكومة انتقالية واستنساخ ما تم في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وحذر من الاستمراء في حالة الوضع الحالي لأن حينها الكل سيدفع الثمن الحكومة والمواطن.
أخيراً ، وعلى ضوء استمرار الاحتجاجات ومحاولة الحكومة تهدئة الأوضاع، قد تحدث متغيرات تقود إلى سيناريوهات تفرض واقعاً جديداً.