علي عثمان في كردفان .. ثلاث ابتسامات ورسالة واحدة
احتفالية وزارة النفط (الخميس) الماضي ببدء تدفق ستة آلاف برميل من البترول في شرايين الاقتصاد الوطني حدث له دلالاته التي تتجاوز حجم الإنتاج إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، فالآلاف الستة من براميل البترول لا تمثل رقماً كبيراً يُحتفى به، فالسودان الذي كان ينتج قبل الانفصال (350) ألف برميل في اليوم أصبح يكابد اليوم من أجل بلوغ إنتاج الـ(6) آلاف برميل بعد تعرض حقل هجليج لتخريب كبير الصيف الماضي إثر احتلاله من جهة قوات من دولة الجنوب.
دلالات الحدث تتمثل في نقل مركز التنقيب والاستكشافات وعمليات التجميع من مناطق حدودية تقع في عمق خطر الاستهداف من جهة دولة الجنوب ومتمردين شماليين يناهضون الحكومة بوسائل عنيفة إلى داخل أعماق الشمال الجغرافي وفي الحزام الأكثر استقراراً في جنوب كردفان (غرب الولاية) وبعيداً عن الحدود مع دولة الجنوب وبعيداً كذلك عن صواريخ (الكاتيوشا) التي يهدد بها متمردو قطاع الشمال جبال النوبة.. وبدأ منذ انفصال الجنوب نشاط تعديني في مناطق آمنة نسبياً في كل من حقل (المقدمة) غرب المجلد وحقل أبو جابرة شمال غرب المجلد على حدود ولايتي شرق دارفور وشمال كردفان وحقل شرق الفولة و(الزرقة أم حديد) وحقول أخرى يتوقع أن يصل إنتاجها لـ (200) ألف برميل في غضون ثلاثة أعوام من الآن.. ومثَّل افتتاح مطار “بليلة” الجديد نقلة نوعية من مناطق (هجليج) لقلب كردفان تأميناً لعمليات النفط من مخاطر المناطق الحدودية حيث يلوح شبح نشوب حرب حدودية بين دولتي السودان وجنوب السودان.. الشيء الذي جعل حقول هجليج و”دفرا” التابعة لشمال السودان وحقول بانتيو وكل ولاية الوحدة و”سرجاس” بأعالي النيل تحت مرمى نيران أية حرب حدودية متوقع نشوبها.
لا تتيح وزارة البترول معلومات عن حجم الاكتشافات النفطية وإنتاج البلاد الحقيقي من النفط وتغطي على الاتفاقيات الموقعة مع الشركات الأجنبية (بحوائط) سميكة من المحاذير وتعتبرها أي المعلومات عن النفط مما لا يحق لأحد الاضطلاع عليه حتى أدى ذلك لأزمة بين الشريكين خلال الفترة الانتقالية حينما سعى الوزراء الجنوبيون للاضطلاع على العقودات مع شركات البترول ولم يتبدل الوضع كثيراً بعد انفصال الجنوب إن لم يزدد تعتيماً، ولكن المهندس “يوسف محمد أحمد” المدير العام لشركة (أستار أويل) أفصح عن معلومات محدودة عن حقل “البرصاية” الذي افتتح (الخميس) الماضي، وقال لـ (المجهر) إن عمليات الاستكشاف في الحقل نجحت بنسبة (100%) أي كل الآبار التي تم حفرها أنتجت بترولاً وبلغ عددها (4) آبار وبدأ الآن حفر البئر الخامسة والسادسة حيث تنتج الآبار الأربع الآن نحو (6) آلاف برميل، ويتوقع أن تضيف البئر السادسة لوحدها (2) ألف برميل أخرى في غضون ثلاثة أشهر من الآن، لكن المهندس “يوسف” يكشف عن كميات مهولة من البترول في حقل “البرصاية” قرب مدينة “الفولة” بقوله: (الاحتياطي القابل للإنتاج بحقل البرصاية يبلغ (40) مليون برميل والاحتياطي الكلي المكتشف يصل لـ (200) مليون برميل) ويتوقع المهندس “يوسف محمد أحمد” – وهو مدير سابق لـ(سودابيت) وخبير في البترول عمل بالولايات المتحدة الأمريكية لسنوات – أن يصل إنتاج حقل البرصاية لـ (10) آلاف برميل.
وتمثل الاستكشافات الحديثة والحقول التي دخلت الإنتاج الأسبوع الماضي ولوج مال وشركة يمنية من خلال مجموعة رجل الأعمال اليمني “الشاهر” حيث يتألف (تحالف) شركة (أستار أويل) من رأس مال وطني ويمني ودخل في تنافس مع الصينيين وحصل على امتياز التنقيب في مربع (17) بولاية جنوب كردفان وجزء من شرق دارفور ويشمل ثلاثة حقول هي (البرصاية) بعد أن أطلق عليها النائب الأول هذا الاسم إحقاقاً للحق بعد أن حاولت الشركة والوزارة سلبه من أهله وتسمية الحقل (بالنجمة) وحقول “شارف” و”أبو جابرة”.. وتمثل العمالة السودانية (97%) من العاملين في (أستار أويل) وبذلك دخلوا كمنافس للصينيين في حقل البترول.
وبدا النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ “علي عثمان محمد طه” أكثر ثقة من ذي قبل لتجاوز الحكومة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها من خلال مشروعات تطوير حقول إنتاج البترول وزيادة الطاقة كتعلية خزان الرصيرص.. والاهتمام بالزراعة في الجزيرة.. وبث “علي عثمان” رسائل تطمينية بقوله: (مثلما دحرت المؤامرات وتكسرت نصال الأعداء في هجليج فإن كتائب المقاتلين ستحمي الأرض وتهزم الأعداء).
وفي رسالته الأخرى قال إن ميزانية العام القادم تضمنت اعتمادات لمشروعات الطرق – وهي إشارة لطريق الإنقاذ الغربي المتعثر- وتوطين الصناعة والدواء ونشر النور والفضيلة.
{ عودة ولاية عاصفة أم نهاية؟!
حينما أعتلى مولانا “أحمد محمد هارون” والي جنوب كردفان منصة الخطابة في احتفالية افتتاح حقل البرصاية.. كانت مشاغل الأمن وتحديات اعتصامات أهالي بابنوسة منذ أسبوعين ماثلة أمامه وحالة الاحتقان السياسي والأمني التي تعيشها جنوب كردفان في ثوبها الحالي حاضرة في المشهد العام.. فإذا كانت الحكومة قد خططت ونفذت لنقل مركز الإنتاج والتحكم في إنتاج وانسياب النفط من المناطق الحدودية مع دولة الجنوب إلى أعماق داخل الشمال آمنة ومستقرة فإن ما أفرزته (نيفاشا) من أوضاع سياسية ظل مهدداً حقيقياً للمنطقة التي تعيش احتقاناً منذ تذويب غرب كردفان وحالة من عدم الرضا أدت بصورة مباشرة لضعف المؤتمر الوطني، بل كاد أن يؤتى الحزب الحاكم في انتخابات والي جنوب كردفان الأخيرة من (مأمن) يعتقده حينما انصرف سكان القطاع الغربي عن الانتخابات، ولم يُبدِ المواطنون حماساً لها بعد أن أقصى المؤتمر الوطني مرشحي المنطقة د. “عيسى بشري” و”صلوحة” من القائمة واختار مرشحاً من خارج المنطقة (كحل وسط).. فإذا كانت الأوضاع الأمنية والحرب المحتملة على الحدود سبباً في نقل أو تركيز الاكتشافات النفطية على المناطق (الآمنة) فإن الأمن في غرب كردفان يبدو (مؤقتاً) في ظل حالة الرفض الشعبية الواسعة لاستتباع المنطقة لجنوب كردفان الحالية دون مبررات مقنعة كما يراها الكثيرون، وبدا مولانا “أحمد هارون” كالرجل الذي يفرح لطلاق زوجته ذات الجمال والمال.. ويمسك بالزوجة الأخرى التي أقعدها المرض وأنهكها التعب.. توسل “هارون” بدبلوماسية القضاة وبإحساس سياسي لرجل أمن وعسكري في ثياب مدنية (لشيخه) و(معلمه) وأكثر القيادات رهاناً على “هارون” كرجل مستقبل الأستاذ “علي عثمان” ليتحدث لأهله في جنوب كردفان في يوم فرحتهم بما يعتمل في صدورهم ويلبي أشواقهم عن متى تعود ولاية غرب كردفان.. ولم يخيب “عثمان” ظن “هارون” ولا رجاءه فأعلنها داوية شقت سماء السودان (عودة ولاية غرب كردفان القديمة التي ذوبت عام 2005م، بقرار يعلنه الرئيس “عمر البشير” بعد ثمانية أيام من الآن).
إذا كان تأمين البترول وإحداث بيئة أمنية دافئة في مناطق الإنتاج سبباً لعودة الولاية، وإضفاء بسمة على شفاه نحو ثمانمائة ألف نسمة من سكان الولاية قد أملى على القيادة السياسية اتخاذ قرار العودة لولاية غرب كردفان، فإن المولود القديم الجديد يعاني من أمراض ومشاكل إن لم تُأخذ في الحسبان الآن وفتح المؤتمر الوطني أبواب الحوار الجهير والمشاورة الواسعة فإن عواصف شتاء ساخنة قد تهب على كردفان مرة أخرى وتهزم مقاصد الميلاد الذي رسم الابتسامات على الشفاه اليابسة، فالولاية العائدة تواجه مشاكل في تكوينها من جهة النزاع حول أبيي المرشحة للتفاعل في العام الجديد خاصة بعد اقتراب نقل القضية لمجلس الأمن الدولي الذي لن يتخذ قراراً لمصلحة السودان وفقاً لمعطيات المنظور في السياسة ويمثل دينكا نقوك جزءاً من مكون ولاية غرب كردفان، وكان لهم نصيب في حكمها منذ ميلادها عام 1994م، وحتى غروب شمسها في عام 2005م، وبعض من قيادات دينكا نقوك رغم قلة عددهم وضعف تأثيرهم وتخويفهم من قبل الحركة الشعبية في الجنوب يقفون مع تبعية أبيي لغرب كردفان ويصعب إسقاط رغبات وأشواق وطموحات هذا المكون من الولاية الوليدة، كما أن قضية أبيي التي اعتبرتها الحكومة وكذلك نخب وقيادات المسيرية بأنها قضية (مسيرية) ستمثل حضوراً دائماً في أجندة الحكومة الولائية القادمة، ولن تبقى الحال على ما هي عليه اليوم حيث نزعت القضية من أيدي حكومة جنوب كردفان وتم حظر قيادات جنوب كردفان من غير المسيرية من الاقتراب من أبيي أو حتى الحديث عنها مما أضعف موقف الشمال وجرد القضية من سند النوبة.. والمعضلة الثانية التي تواجه الولاية الجديدة تتمثل في قضية محلية “لقاوة”.. حيث ظلت الجبال الغربية من جنوب كردفان حاضرة في المشهد التفاوضي والمساومات السياسية، ويرفض قطاع عريض جداً من النوبة نزع الجبال الغربية من واقعها الثقافي والاجتماعي وإلحاقها بغرب كردفان، ولا يناهض هذا الموقف (المتمردون) من الحركة الشعبية وليس صحيحاً أن كل من يرفض استتباع الجبال الغربية (يوالي) المتمردين.. وتعتبر اتفاقية “سويسرا” التي بموجبها أعلن وقف إطلاق النار بين الحكومة ومتمردي الجيش الشعبي في جبال النوبة (كحقل تجريبي) لاتفاقية السلام الشامل قد نصت على تعريف ولاية جنوب كردفان – جبال النوبة بأنها جنوب كردفان إضافة لمحافظة “لقاوة”.. وحافظت المنطقة على اتفاق هدنة محلي بين المسيرية والنوبة بعد عودة الحرب في 2011م، إلى الاستقرار والأمن ولكن إعلان ولاية غرب كردفان دون مشاورات ومساومات وحوار مفتوح مع مكوناتها خاصة (النوبي) منها قد يهدد بنسف الاستقرار الحالي وعودة الحرب للجبال الغربية إن لم تتدارك الأطراف الموقف الآن وتجدد الاتفاقيات (المبرمة) بين سكان الجبال الغربية من النوبة وعرب المسيرية الزرق في لقاوة.. ومن شأن قضية الجبال الغربية أن (تصبح) أبيي جديدة تؤرق الولاية الجديدة وتهدد حتى الاستكشافات النفطية.. وثمة قيادات بارزة من رموز المسيرية تقف مع خيار إرجاء عودة الولاية ريثما يتم التوصل لاتفاق وتسوية تنهي الحرب في جنوب كردفان ويتم (التقرير) بشأن وضعية الجبال الغربية مع القوى الفاعلة في النوبة وهم (حاملي السلاح) من المتمردين.. وثمة قيادات أخرى تقدم رؤية جديدة بإعادة النظر في (مجمل) أوضاع إقليم كردفان وإعادة تشكيل الولايات الجديدة بإضاءة الطريق لميلاد ولاية (قدير) وتلبية أشواق النوبة بميلاد ولاية جبال النوبة.. وثمة بعد رابع في قضية عودة ولاية غرب كردفان متمثل في محليات “النهود” و”غبيش” و”الخُوى” و”أبو زبد”.. وهذه المحليات مفتوحة على شمال دارفور واتخذها التمرد الدارفوري مسرحاً لنشاطه العسكري بل بعض من أبناء تلك المحليات يحملون السلاح في وجه السلطة ولهم تطلعات وقضايا ليس من بينها (أبيي) ولقاوة والبترول.. وثمة تنافس بين شمال الولاية وجنوبها حتى قبل تذويبها وصراعاً وسط القيادات في سياق البحث عن الاستئثار بمغانم السلطة وبهرجها.
{ أوضاع جديدة:
ميلاد ولاية غرب كردفان بعد أن أصبح حقيقة تمشي بين “النهود” و”الفولة” هرول السياسيون نحو كرسي الحكم الجديد في ثلاث ولايات قد تتيح ثلاثة وظائف لمن يتوق (للبريق) وموسيقى الاستقبال وأخذ السياسيون على عاتقهم إعادة ترميم (البدل) القديمة وغسل العمائم وإعداد عصا السلطة لشهر عسل أخذت نسائمه (تدغدغ) أنفاسهم.
جنوب كردفان بدا واضحاً أن مولانا “أحمد هارون” قد حزم حقائبه وعد نفسه لدور مركزي في موقع مرموق ولكن مغادرة “هارون” لمجرد تفكيك ولايته لا يبدو قراراً سهلاً.. فالأوضاع العسكرية على الأرض تتطلب وجود قيادة تملك القدرة والنفوذ للتواصل في كل ساعة مع القيادة العليا للدولة، ومغادرة “هارون” الآن قبل تسوية كثير من (الملفات) من شأنها فتح أبواب نزاع بين مكونات الولاية يتخذ أبعاداً (قبلية) حيث منتظراً أن يقود الولاية بعد ذهابه أحد قيادات النوبة من المرشحين للموقع من منسوبي المؤتمر الوطني، وفي ظل سيطرة المركز و(كتمه) لأنفاس القيادات وخوفها من تبعات الجهر بالرأي والمواقف الحقيقية سيترتب على مغادرة “هارون” في هذه الظروف تعقيدات تجعل الولاية تسير على حافة الهاوية واحتمال سقوطها أكبر من نجاتها.. ولكن التسوية ووقف الحرب من شأنه جعل الانتقال (مأمون) العواقب.. بيد أن جنوب كردفان الآن (غارقة) في ديون (ستقعدها) عن النهوض على رجليها لعشر سنوات قادمة ولن تفلح أي حكومة جديدة في سداد تلك الديون إذا غادر “هارون كرسي” اليوم.. وفي شمال كردفان ربما عطلت التطورات الجديدة مشروع الوالي “معتصم ميرغني حسين زاكي الدين” بإبعاده بعض أطراف حكومته حيث أصبح وجود “زاكي الدين” في كرسي حاكم شمال كردفان تحت رحمة القيادة السياسية في المركز والمشروعية الانتخابية التي يتمتع بها كل من “زاكي الدين” و”هارون” لم يتبقَّ لها إلا بضعة أيام بإعادة ترسيم خارطة الولايتين مثلما جرى في دارفور، حيث نزعت المشروعية الانتخابية التي نالها “كاشا” و”الشرتاي جعفر عبد الحكم” واستبدلت بمشروعية مركزية بتعيين ولاة من المركز بعد خلع ولاة منتخبين من القاعدة.. وربما (استثنى) القرار المرتقب صدوره الولاة المنتخبين في “الأبيض” و”كادقلي”.. ولكن تعقيدات الأوضاع لا تقف عن المناصب التنفيذية وحدها فالمجالس التشريعية ستنقسم أيضاً وربما وجدت كادقلي نفسها بلا مجلس تشريعي حيث يتألف المجلس الحالي من (54) عضواً اثنان وعشرون منهم (تمردوا) مع الحلو واثنان غيبهم الموت وسيذهب (20) منهم لغرب كردفان ولن يتبقى إلا رئيس معين (يدعي الهادي أندو) وسبعة نواب.. وكذا حال شمال كردفان، ولكن القرار الذي أعلنه “علي عثمان” (الخميس) الماضي وجد من يصفه بالعشوائي على حد ما ذهب إليه “حسن صباحي” عضو المجلس الوطني الذي يتحدث دون خوف أو تحسب لتبعات مما يقول،حيث قال: (ذوبت الولاية بقرار عشوائي وعادت بقرار عشوائي)، ولكن أصوات المبتهلين بعودة الولاية تغطي على أصوات كثيرة لها رأي ولكنها لا تملك شجاعة “صباحي” ولا “عمر سليمان” في الجهر بما في الصدور.. ليمثل قرار عودة ولاية حدثاً يستحق قراءة أبعاده قبل تعديل الدستور و(ترتيب الأمور)!