تقارير

أيام في سنار .. الأرض الموعودة .. بالخصب والتمني

لم تغشاها رياح الأحداث الأخيرة والوالي يحذر من الانزلاق إلى الفوضى

سنجة – الدندر – رشان أوشي
كان الهدوء يعم المدينة عند دخولنا منتصف ليلة (الجمعة)، انتشار كثيف للقوات الأمنية، نقاط ارتكاز على طول الطريق من حدود ولاية سنار باتجاه ولاية الجزيرة، مدينة سنجة عاصمة الولاية تغط في نوم عميق، ستار الليل الحالك يفرض هيبته على الكون، باستثناء بعض الأضواء المتناثرة على جنبات الطريق، كانت مهد الدولة السنارية وسلطنة الفونج تتحدث عن نفسها كما شدا بها المغني “سنار أنا ..التاريخ يبدأ من هنا”، ولم تكن سنار حاضرة أول سلطنة إسلامية في السودان فقط، بل أصبحت عنواناً للبلاد ومركزاً مهماً للإشعاع الثقافي والإسلامي في أفريقيا، وكان أهل السودان في عهد مملكة سنَّار يعرفون بالسنَّارية وربما وصفوا بالسنانير، تضج المدينة القديمة بزخم كبير من المنشآت التراثية التي تشرح ماهية المكان، تم ترميمها في وقت قريب، أضيفت لها مبانٍ حديثة على الطراز المعماري السناري ذي الطابع الإسلامي، فن العمارة الإسلامية فيها يشير إلى نمط تدين سيطر على حياة الناس قبل خمسة قرون.
محبوبة النيل الأزرق ..
لا يعرف على وجه التحديد سبب تسمية المدينة بهذا الاسم، وإن كانت بعض الروايات – وفق ما يذكره الموقع الإلكتروني لمشروع سنار عاصمة الثقافة الإسلامية 2017- ترجح أن سنَّار عاصمة مملكة الفونج الإسلامية اسم لجارية كانت أول من سكن المنطقة، قبل أن تتحول لاحقاً إلى مدينة مهمة ذات شأن بحكم موقعها الجغرافي والاستراتيجي، وقد نادى بعض المثقفين عند استقلال السودان باعتماد اسم سنار للدلالة على السودان الوليد، لأهمية العودة إلى التراث السوداني في عصر سنار والمزج بين التراث والتحديث في عملية نهضة البلاد وتقدمها، بيد أن الرئيس “إسماعيل الأزهري” فضل اسم “السودان” الذي عرفت به البلاد منذ النصف الثاني من القرن، وقد جسدت سنار لأكثر من (300) عام نموذجاً للمدينة التي يذوب فيها الولاء القبلي، بل وحتى الولاء القومي، تحت تأثير الانتماء لعناصر المزيج الحضرية، فتخلى كثير ممن التحق بها من الحجاج القادمين من غرب أفريقيا عبر طريق الحج السوداني -الذي كانت سنار من أهم محطاته – عن انتمائهم لقومياتهم المختلفة وتماهوا روحاً وكياناً في هذه المدينة الإسلامية، كما أنها تضم أحد أهم المشاريع التنموية المهمة في السودان ما بعد الاستقلال”خزان سنار”، ومنه تبدأ حكايات السياسة والحياة في ولاية لا تبارح مكانها العظيم في تاريخ البلاد.
أيام حسوم:
فعلت حكومة الولاية قانون الطوارئ العسكري في مدنها ،بعد الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، ولكن”سنجة” نجت من مصير مدينتي”الدامر” مركز ولاية نهر النيل، و” ربك”، حاضرة ولاية النيل الأبيض، التي طالت بعض مقارها السياسية والحكومية كمقر حزب المؤتمر الوطني في نهر النيل الذي أحرقه المحتجون، وديوان الزكاة في النيل الأبيض، حظر التجوال يجعلك تشعر وكأن المدينة خاوية على عروشها من البشر، لذلك تعتبر الأقل خسائر مقارنة ببقية الولايات.
والي ولاية سنار”د.عبد الكريم موسى”، أكد لدى مخاطبته أعيان ونظارة قبائل رفاعة الكبرى في احتفالهم السنوي بالتراث في مدينة “الدندر”، أن يومهم هذا صادف الأيام العصبية التي مرت بها الولاية، رغم تماسك مجتمع المدينة وتماسكه الثقافي والاجتماعي، مشيراً إلى وعي إنسان سنار وتقدمه الفكري الذي جعل أن تكون الولاية في هذا الترف الاجتماعي والسياسي، بينما انساق الآخرون وغرر بهم لكي يدمروا مؤسساتهم، ويجعلوا من هذه البلاد فوضى على حد تعبيره، وأردف: “نحن نفرق تماماً بين التظاهرات والحراك السلمي الذي يفضي إلى احتجاج سلمي عبره يعكس المواطن رأيه وموقفه تجاه بعض الأوضاع في البلاد، وهذا حق يكفله الدستور، ولكن بالدليل القاطع ثبت لنا في الأيام الفائتة أن الخروج إلى الشارع والتظاهرات خلفها مجموعة من الذين يريدون أن تنزلق هذه البلاد الطيبة إلى الفوضى”، مضيفاً بأن أهل سنار والدندر وقياداتهم السياسية والإدارات الأهلية،والمثقفين، والشعراء، والنخب قطعوا على هؤلاء الزمرة الطريق الذين يريدون لهذه البلاد أن تنهار، مؤكداً على أن ولايته لم تتعرض للحريق في أي من مؤسساتها، وزاد قائلاً:” لم ترق لنا قدر 5 سيسي من الدماء، خليك من دماء كثيرة”، قاطعاً بعدم سقوط قتلى أو جرحى في الاحتجاجات الأخيرة، مردفاً بتعاضد أجهزتنا المختلفة العسكرية،والأمنية،والتنفيذية، ووعي مواطني ولاية سنار، وتابع:دللوا على أن سنار تتكئ على إرث سناري، وأن السناريين ينطلقون من قاعدة أساسية، ترجع إلى إرث الملوك ،المكوك، والسلاطين، باعتبارهم أهل معرفة وحكم.
وعد وتمنٍ
كانت غابات “السنط”، تقف شامخة لأكثر من ستين عاماً في أرض ولاية سنار الخضراء، تكافح التعرية وتهب المكان إشراقاً طبيعياً أخاذاً، ثمار “القرض” العلاج الشعبي الشهير بين السودانيين هو كل ما تهبه تلك الأشجار الصلبة، ولكنها بدأت تختفي رويداً رويداً، وتحل محلها غابات “المهوقني”، “القمبيل”، وأشجار “المانجو” الناعمة كصبية بضة، بجانب مزارع الموز، كاتجاه زراعي جديد للولاية الغنية بأرضها الخصبة، حتى أصبحت”ولاية الموز”، على غرار جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية التي تعتمد على تلك الفاكهة المحبوبة كمورد اقتصادي أصيل، أوضح “موسى”بأن ما تم بالفعل هو استبدال السنط بالمهوقني، والمانجو، والموز، وتم ذلك بقرار رئاسي، من السيد رئيس الجمهورية، وأمامكم اليوم نموذج لمزارع الموز التي زرناها وصاحبها “فاروق العباد”، وتعتبر إحدى الروافع الاقتصادية للبلاد، لذلك صدر قرار بتعميمها، أما قضية السنط فلم تعد ذات جدوى، لأن أسباب زراعتها انتفت، حيث زرعت في الماضي لاستخدامها كفلنكات للسكك الحديدية، واليوم أصبحت الفلنكات خراسانية، أما الموز فقد شجعته رئاسة الجمهورية بعد أن علمت فوائده، خاصة وأن الفدان الواحد ينتج عشرة أطنان، وان زرعنا فقط (50.000) فدان سنوفر (2) مليار دولار عائداً سنوياً.
الذهب الأبيض ..
افتقدت تلك الأرض المعطاة مولودها الأول لسنوات حكمها القحط، ولكنها بدأت تستعيد عافيتها ورونقها، فقناطير القطن في مدينة السوكي تشي بأن الطبيعة عادت إلى مزاجها الأول، ووهبت إنسانها فيض كرم لا يضاهى، زرع أهلها فدادين من القطن المحور، وغمرهم إنتاج التربة العذراء ، فرحوا ملء قلوبهم ، وباتت جيوبهم موعودة بقطن ووعد وتمنٍ، ولكن د.”عبد الكريم” أشار في حديثه عن القطن إلى قلة المحالج في الولاية، قائلاً:”نعاني من قضية المحالج، صحيح توجد ثلاثة ، لكنها بقدرة إنتاجية أقل بكثير من الإنتاج، لذلك صدقنا لمستثمرين لإنشاء أخريات تخدم قضية إنتاج القطن”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية