هل خروج الإنجليز من البلاد طواعية.. أم أن المجاهدات عجلت بالرحيل؟
محطات في مسيرة نيل الاستقلال
تقرير ـ هبة محمود سعيد
يصادف اليوم الذكرى الـ(63) للاستقلال في الأول من يناير 1956م، بمجاهدات ونضال الرعيل الأول.. حيث تقدمت حركات التحرر والجمعيات الوطنية والشبابية والفئويين المسرح السياسي انذاك كل يعمل من موقعه وتخصصه إلى أن جاء العام 1951 الذي كان بمثابة البداية حيث بدأ الإنجليز ينظرون في كيفية الخروج من السودان وتحديد الموعد، فكانت السودنة الجزئية في الوظائف الحكومية، واستمر الوضع إلى أن جاء العام 1953 عام الاستقلال الحقيقي وذلك عندما سمحت دولتا الحكم الثنائي للسودانيين بتولي إدارة شؤون بلادهم، وكان أول برلمان في العام 1953 حيث أجريت انتخابات شهيرة نهاية العام وشكلت بذلك أول عضوية برلمانية في تاريخ السودان.
أدار السودانيون شأن بلادهم لثلاث سنوات متتالية، استطاعوا خلالها أن يكتسبوا الخبرة من الإنجليز، وفي خضم كل ذلك كانت الأسئلة تطرأ حول خروج الإنجليز من السودان هل كان بصورة طوعية، أم أن المجاهدات وقوة الثورة كانت سبباً في خروجهم؟
{ أولى المحطات
أولى محطات استقلال السودان حسب ما أشارت الوثائق، كانت تكمن في مشروع قانون الحكم الذاتي، حيث رغبت بريطانيا في إعلان فكرة الحكم الذاتي بالسودان خلال أقرب فرصة ممكنة لقطع خط الرجعة على أطماع مصر في السودان، وتكون بذلك قد وضعت السودان مباشرة في مواجهة المصريين. فقام وقتذاك “ستانلي بيكر” بتكليف من الحاكم العام سير “روبرت هاو” بتقديم تقرير بما انتهت إليه أعمال اللجنة السودانية من توصيات، وأقرت الجمعية التشريعية تقرير “ستانلي” وما عرضه من توصيات لجنة تعديل الدستور في 23 إبريل 1952. وبعد إدخال تعديلات على هذه التوصيات، أصبحت الصيغة النهائية هي ما يطلق عليه “مشروع قانون الحكم الذاتي وتقرير المصير”، وقد أرسله الحاكم العام سير “روبرت هاو”، في العام 1952، إلى دولتي الحكم الثنائي للموافقة عليه أو الرد بأي مقترحات لازمة، وكان يرأس حكومة مصر، رئيس الوزراء “نجيب الهلالي باشا”، وحدد الحاكم العام مهلة ستة أشهر لرد الحكومتين وإلا أصبح نافذ المفعول. ونص مشروع الحكم الذاتي على أن يُشكّل مجلس وزراء سوداني يكون مسؤولاً أمام البرلمان يضم وزيرين جنوبيين، ويختار البرلمان رئيس الوزراء الذي يعين الوزراء، على أن يشكل البرلمان السوداني من مجلس نواب، من (97) عضواً منهم (24) يختارون بالانتخاب المباشر، و(54) يختارون بالانتخاب غير المباشر، وثلاثة بالتعيين، وكذلك يُشكّل مجلس شيوخ من (50) عضواً، ينتخب منهم (30) من المحليات، ويعين الحاكم العام الـ(20) الآخرين.
لم يرد رئيس وزراء مصر وقتها على مشروع الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان، واستمر الحال إلى أن قامت ثورة 23 يوليو 1952، وبعدها بفترة وجيزة كلف وزير خارجية بريطانيا سفيرها في القاهرة بعرض خطة بريطانية للاتفاق مع مصر حتى لا تتأجل الانتخابات في السودان، ولا يتوقف العمل بالدستور هناك، وأبدى رغبة الحكومة البريطانية في عرض هذه الآراء، التي تؤدي في النهاية إلى ضرورة رد حكومة مصر على مشروع دستور الحكم الذاتي، وتقرير مصير السودان، المرسل لحكومة مصر في 1951، حتى لا تصدم مصر مشاعر الشعب السوداني، الذي يتطلع إلى الحرية، وأن حكومة بريطانيا ترحب بأية وجهة نظر مصرية، في شأن بنود هذا المشروع.
{ السودنة .. المحطة الثانية
عقب مشروع قانون الحكم الذاتي تأتي السودنة كثاني المحطات في استقلال السودان، حيث ورد لفظ السودنة في اتفاقية الحكم الذاتي للسودان التي تم توقيعها في القاهرة في 1953م بين الحكومتين المصرية والبريطانية بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان، ونصت على فترة انتقال تتم خلالها تصفية الإدارة الثنائية، بجانب قيام لجنة الحاكم العام تُشكّل من عضو باكستاني ومصري وممثل لبريطانيا وعضوين سودانيين لتساعد الحاكم العام في ممارسة واجباته، كما يتم تشكيل لجنة انتخابات مكونة من سبعة أعضاء: ثلاثة سودانيين وعضو مصري وآخر بريطاني وعضو من الولايات المتحدة الأمريكية وأيضاً عضو هندي، وذلك للإعداد والإشراف على الانتخابات العامة للبرلمان.
تم تشكيل لجنة السودنة من خمسة أعضاء: ثلاثة سودانيين وعضو مصري وعضو بريطاني، للقيام بسودنة الإدارة والشرطة وقوة دفاع السودان، وغير ذلك من الوظائف العامة، في مدة لا تتجاوز ثلاثة أعوام، كما تكونت لجنة لسودنة الجيش لدراسة بناء وتنظيم وتشكيل القوة المناسبة للعهد الجديد في السودان.
قامت لجنة السودنة بأداء مهامها في إحلال السودانيين محل البريطانيين والمصريين في دوائر الشرطة والجيش.. وفي أبريل 1955م قدمت اللجنة اقتراحات بشأن سودنة جميع الوظائف الإدارية الكبرى في مختلف الوزارات والمصالح الحكومية الأخرى، وفي أغسطس 1955م أنهت اللجنة مهامها، وفي الشهر ذاته وافق البرلمان السوداني على التقرير النهائي للجنة، ومن ثم تهيأ الجو المحايد اللازم لتطبيق مبدأ تقرير المصير.
{ برلمان الاستقلال
في العام 1953 وبمقتضى قانون الحكم الذاتي الذي تم الاتفاق عليه بين الأطراف الثلاثة، إنجلترا ومصر والأحزاب السودانية عقب ائتلافها جرت أول انتخابات تشريعية في البلاد لتشكيل برلمان سوداني، وتم الاتفاق على تشكيل لجنة انتخابات مختلطة.. وحسب المصادر فقد احتدم نقاش مستفيض حول الاتحاد مع مصر أو الاستقلال الكامل، وقد شاركت القاهرة بصورة مكشوفة في حملة الدعاية لصالح الحزب الوطني الاتحادي الذي كان يدعو للوحدة مع مصر، وبالفعل حصل “الحزب الاتحادي” في هذه الانتخابات على (53) مقعداً، بينما حصل منافسه القوي حزب “الأمة” على (22) مقعداً فقط، الأمر الذي جعل من حزب الأمة يطعن في شرعية الانتخابات ويتهم الحكومة المصرية بتمويلها.
لم تتحصل الأحزاب الأخرى على مقاعد كثيرة فقد حصل “المستقلون” على (7) دوائر، وكتلة الجنوب (7) دوائر والجمهوري الاشتراكي (3) دوائر، فيما نال الوطني الاتحادي ثلاثة مقاعد في الخريجين.
{ يوم الجلاء
طالبت الأحزاب في الوثيقة التي قدمت للحاكم العام في عام 1953 بعدة مطالب أهمها إلى جانب السودنة والانتخابات، جلاء قوات الاحتلال على أن يوكل أمر الأمن الداخلي للبلاد إلى القوات السودانية المسلحة التي تكون أوامرها العليا وقيادتها وولاؤها للبرلمان والحكومة السودانية القائمة، ومن يوم إتمام الجلاء وحتى انتهاء تقرير المصير لا يكون للحاكم العام أي سلطان عليها، وبالفعل سارت الأمور كما أرادت لها الحكومة أن تسير، وكان السادس عشر من أغسطس 1955 موعداً لجلاء قوات المستعمر.. وهذا الحدث الذي وافقت عليه دولتا الحكم الثنائي عدّه السودانيون عيداً وطنياً لهم، وقال الزعيم “الأزهري” في خطابه الشهير آنذاك: (للسودانيين أن يفرحوا ويبتهجوا ويعتبروا أن يوم 16 أغسطس يوم ميلاد السودان المستقل الكامل السيادة الموفور العزة والكرامة، ولهم أن يعتبروا هذا اليوم عيداً قومياً من أعياد الوطنية المشهودة الخالدة، ففي هذا اليوم السعيد المجيد يتقرر جلاء قوات الاحتلال الأجنبي ويصدر هذا القرار التاريخي الخطير بإجماع قومي رائع، تمثل فيه إرادة البلاد النافذة ورغبتها الحقة في نيل حريتها الكاملة وسيادتها التامة واستقلالها النظيف الشريف الخالي من أي نفوذ أو تدخل أجنبي مهما كان لونه وصفته).
بالمقابل يرى الخبير البروفسير “إسماعيل الحاج موسى” أن معارك ومجاهدات كثيرة قادت إلى استقلال السودان وجلاء المستعمر، مشيراً إلى معارك ثورة “ود حبوبة” وثورة “المهدية” التي كانت كلها ضد الاستعمار، لافتاً إلى أن الحكم الذاتي الذي أقدم عليه الإنجليز لم يكن طواعية وإنما فُرض عليهم فرضاً من قبل مذكرة الخريجين الشهيرة، التي كانت امتداداً للتظاهرات والمعارك المتواصلة. وذكر في حديثه لـ(المجهر) أن السودنة والجلاء والاستقلال كانت نتاج مجاهدات، وزاد: (المصريون لم تكن لديهم القوة حتى يتخوف الإنجليز منهم ومن أطماعهم على السودان، لكن الاستقلال تحقق بفعل مجاهدات.. وحقو ما نظلم أنفسنا ونقول إننا حصلنا على الاستقلال على طبق من ذهب).