سوق الدواء صار يمثل الآن حالة مأساوية وصورة قاتمة، وجدت الاحتجاجات والرفض من قطاعات كثيرة في المجتمع على ضوء القرارات الاقتصادية الأخيرة التي ظهرت من خلال سياسة رئيس الوزراء “معتز موسى” والتي لم تستثنِ سلعة الدواء من إجراءات تحرير الصرف، وعدم تحديد سعره التأشيري من بنك السودان، فضلاً عن الغموض الذي اكتنف وسائل استيراده من شركات الأدوية الخارجية، علاوة على التخبط الواضح الذي عكس الإهمال المفضوح في التعامل الرسمي مع هذه السلعة الإستراتيجية التي تمثل الارتباط الوثيق بحياة المواطنين.. للدواء عبقريته وقدسيته اللامعة وسحره البائن ونكهته الضرورية، فالدواء يقسم المجتمع إلى قسمين، في حالة الأزمة وحالة الرضا والوفرة، وحين يمر الدواء بأزمة طاحنة وندرة في وجوده فإن ذلك يعني دخول المجتمع إلى مدارك الإحباط والهزيمة النفسية والاقتراب من مربع الهلاك، وبذات القدر عندما تزدهر أحوال الدواء فإن ذلك يؤدي إلى ظهور الصورة الوردية في المجتمع، التي تنعكس في ملامح الشفاء والراحة والاستقرار العضوي والنفسي.
يمكن للسياسات الحكومية أن تهمل الطعام والشراب والملبس في ظل التعقيدات والظروف القاسية ولا يوجد ثمة عذر للسياسات الحكومية التي تترك الأولوية في قضايا الدواء وراء ظهرها، فهي في نظر القيم الإنسانية والعرفانية سياسات ومناهج بالية ومدمرة تستدعي الفحص التاريخي والمحاكمة التي لا ترحم، فالشاهد أن الدواء ما زال حتى الآن في قبضة التداخل في الصلاحيات والسياسات وتعدد فصول القرارات حتى أصبح سعره وجودته وبلسمه في كف عفريت، وما زال سوق الدواء تتزاحم فيه العناصر الطفيلية ومافيا الربح السريع التي لا تعرف طعم الإنسانية ومذاق الصحة وطمأنينة وفرة السلعة الذهبية.. فما هي الجهة التي تمسك على دفة الحق في قضايا الدواء، وزارة الصحة أم اتحاد الصيادلة أم أصحاب شركات الأدوية أم مجلس السموم والأدوية؟ وهل هؤلاء يتنافسون جميعاً على الثراء من سلعة الدواء في ظل الأوضاع المزرية والسوق الرائج الذي لا يرحم.. معاش الناس لا ينصلح في ظل المريض المنهوك في عقله وجسمه وهو يبحث عن الدواء بكل جهد وتعب، وحين يجد هذا المريض الدواء بالأسعار الزهيدة فإنه يكون سعيداً يضرب الأرض حتى تخرج قمحاً وذهباً، لا بد من القول بأن أزمة الدواء تمثل مركب الفشل لأي سلطة في أي زمان وأي مكان، وأن مسارح الموت كثيرة وأسباب الفناء متعددة، ويكون في حكم التاريخ أن أكثر أسباب الهلاك للمعايير الإنسانية تكون في غياب الدواء لحظة البحث عنه بضراوة وحين يتعذر الحصول عليه بسبب الاختفاء وغلاء سعره، من الواضح أن أزمة الدواء تمثل أكثر المثالب للحاكمين بغض النظر عن مواقعهم في الكراسي، وكم تذوب جحافلهم البراقة وكم تنحني قامتهم حين يكون الدواء المشكلة المعقدة.. تصور أن مريضاً لاهثاً يمكنه تحمل الجوع والهوان والمسكن القذر، لكنه يقاوم حالته الرثة وعظامه المتهالكة حتى تتحقق أمنيته بوجود الدواء في ثلاجة قديمة!!