قبل أيام مرت ذكرى رحيل صديقي العندليب السوداني “محمد إبراهيم زيدان” وهذا اسمه وفق شهادة ميلاده.. الأعوام الماضية كنا نقيم أمسية غنائية بميدان الربيع بحي العباسية الذي عاش فيه وشهد أجمل سنين حياته، وشهد بداياته الفنية وانطلاقته نجماً مضيئاً في سماء فن الغناء السوداني الحديث.. أنا بعدت عن أهلي بحي العباسية بأم درمان ولا أعلم إن كانوا يعدون لحفل إحياء ذكراه.. وهذه مناسبة أشكر فيها الصديق الصيدلاني د.”عمر مسعود” الذي أقام حفلاً جماهيرياً كبيراً بمدينة نيالا بالتضامن مع الأدباء والشعراء والفنانين هناك. ويا له من حفل حضرته آلاف مؤلفة من محبي الراحل “زيدان” ، وصدح فيه الفنان المطرب “سيف الجامعة” وأبدع أيضاً الفنان الشاب “رامي”.. الحفل الأخير في السنة الماضية كان برعاية الصديق د.”أشرف الكردينال” الذي عاش سنوات وتربطه والراحل وشائج الصداقة والحي العريق.. من غرائب الأشياء أن محامية اتصلت علي تسألني عن أموال ورثة “زيدان” من ريع ذلك الحفل الذي رعاه “الكردينال”!! ولم تدرك أنه حفل مجاني نقلته القنوات الفضائية، تبرع بنفقاته د.”أشرف” ، وأشرف على إخراجه بصورة ممتازة نفر من أهل العباسية أنشأوا منظمة خيرية لـ(العندليب)!!
بالمناسبة للراحل “زيدان” وارث واحد هو عرفات ابن عمه “حسن زيدان”!! لا أود الحديث عنه إطلاقاً.. شريط من المواقف والذكريات يترى ملئ بالحزن والفرح.. جزى الله خيراً صديقي “صلاح الباشا” الذي كتب عن ذكرى رحيل (العندليب).. في تاريخ وفاته(23 سبتمبر) بالقاهرة بمستوصف المروة والذي ذكر أطباؤه أنهم لم يشهدوا زواراً بمثل تلك الكثافة مثلما شهدوا في حالة الراحل (العندليب) الذي أمرهم أن لا يمنعوا الناس من زيارته، وكانت الابتسامة الشاحبة لا تفارق محياه وهو في الساعات الأخيرة من حياته.. مصادفة كنت بالقاهرة مشاركاً في نشاط ثقافي لمنظمة يرعاها الأمير الصديق “جمال عنقرة”.. ذهبت إلى مستوصف المروة مرافقاً له وجاء معه زملاؤه من فرقته “ذكي” و”الكردفاني”.. صباح وفاته وصل الفنان الصديق “حمد الريح” والصديق الموسيقي “محمد جبريل” والصديق د. “عبد القادر سالم” والصديق “إبراهيم شلضم” الذي سماه الراحل شلضم حينما كان صبياً يعمل مع أشهر متعهد حفلات الفنانين “مصطفى” فارغات – له الرحمة – فقد كان يجوب مدن السودان جميعها يقيم الحفلات الساهرة الغنائية على مسارح دور السينما بمدن السودان، وقد كان الراحل نجم تلك الحفلات يجوب كل عواصم الولايات لعدة أشهر.. “زيدان” وحيد والديه.. والدته تؤام “أم الحسين” وشقيقتها “أم الحسن”.. يرحمهما الله.. شهد لـ”زيدان” الصديق الجنرال “الهادي بشرى” زميل دراسة للراحل بأنه كان من المتفوقين بمدرسة وادي سيدنا.. كان مرهف الإحساس ترك الدراسة في السنة الثالثة حينما عنفه أستاذه حينما خيره بين الدراسة أو الغناء فاختار الغناء.
في ذكراه أسرد بعض المعلومات عن الراحل.. “زيدان” تزوج ثلاث مرات.. لم يوفق أو يعمر في زيجاته.. لم يقترن بمن أحبها وأحبته.. والدته رعته في صباه ظلت تعمل عاملة بمصنع الظهرة العريق.. كانت على قناعة بأن ابنها موهوب فظلت تشجعه في بداياته.. ظل يتردد على لجنة إجازة الأصوات لأكثر من خمسة عشر عاماً فترفض اللجنة إجازة صوته إلا أن قدم للجنة أغنية (داوي ناري والتياعي) من نظم الشاعر المصري الراحل د.”إبراهيم ناجي” مؤلف رائعة سيدة الغناء “أم كلثوم” (الأطلال) “زيدان” اختار جزءاً من النص ولحنه.. أعجب اللحن والأداء لجنة عصية برئاسة الموسيقار الراحل “برعي محمد دفع الله”.. “زيدان” وقتها كان عاكفاً بمنزله بالعباسية يتمرن ويلحن ويختار من دواوين الشعر التي كان يقتنيها.. لحن للعقاد” ولـ”نزار قباني” وللراحل “مهدي محمد سعيد” من دواوينهم قبل أن يشتهر.. “زيدان” من طباعه الهدوء والصمت والرقة ومدمن للقراءة.. قدمني لساحة الغناء كشاعر حينما غنى من نظمي (باب الريدة) والتي لحنها الموسيقار الصديق “عمر الشاعر” وتلتها أغنيات عديدة من ألحانه.. قدم أيضاً للساحة الفنية “عمر الشاعر” والراحل “الفاتح كسلاوي” الذي لحن لـ”زيدان” من نظمي (ليه كل العذاب) وقدم “عمر الشاعر” كملحن وجد ضالته في صوت “زيدان” وقدم الشاعر الصديق “عبد الوهاب هلاوي”.. الأغنية الوطنية الوحيدة له من ألحان الموسيقار الكبير “بشير عباس” من نظمي بعنوان (الحب الكبير) ، آخر وجبة قبيل وفاته طلبها كانت لقيمات من كسرة بي ملاح شرموط طلبها من إحدى المعجبات اللائي زرنه في مرضه الأخير.. ردد في بدايات أغنيات للرائع الراحل “محمد وردي” والراحل “إبراهيم عوض” والرائع “الكابلي” الذي شارك هو والراحل “وردي” بالغناء في الذكرى الأولى لرحيله.
الصورة الوحيدة التي كانت معلقة في غرفة نومه كانت لصديقه الراحل “خليل إسماعيل”.. وتربطه علاقة صداقة حميمة بالفنان الصديق “أبو عركي”.. رفض “زيدان” أكثر من مرة زيادة أجره وكثيراً ما يتنازل عن نصيبه في الحفلات التي يحييها.. وبالمجان أحيا العديد من الحفلات التي يقيمها أهل حي العباسية، وكان يدعو زملاءه لمشاركته مناسبات الأصدقاء وأهل الحي – كان – يرحمه الله – يحدثني عن عزمه لوقف منزله للعجزة والمسنين ويطلب مني الذهاب إلى وزارة الأوقاف لتمام الإجراءات.. ترك كماً من الأغنيات الجديدة التي لم يسجلها للإذاعة وكان يحدثني – وهو يحتضر – عن أسفه لعدم تسجيله تلك الأغنيات.. اللحن الأخير الذي أهداه له الراحل “سليمان أبو داؤود” من كلماتي (إذا الخاطر سرح) كان معجباً به لأنه اللحن الوحيد الذي تغنى فيه بإيقاع.. أما عن أياديه البيضاء فتلك قصة أخرى. له الرحمة