رأي

الحاسة السادسة

رشان أوشي

رسائل بلا بريد

عندما أحب المناضل الفلسطيني والأديب الراحل “غسان كنفاني” معشوقته الأديبة السورية “غادة السمان”، كانت لديه زوجة وأولاد، ومسافات شاسعة من الجغرافيا والتعقيدات الاجتماعية التي حرمته لقاءه بمحبوبته، كما أن “غادة” تحاشت إقامة علاقة معه حتى لا يفقد رغبته المستعرة في كتابة الرسائل التي اعتبرتها إرثاً أدبياً لا يقدر بثمن، ونشرتها بعد مقتله، وقالت إن ما كتبه “كنفاني” ليس ملكاً لي أنا “غادة”، وإنما هو ملك الأدب والتاريخ.
رفضت “غادة” أن تنشئ علاقة مع “غسان”، وتركته فريسة لشوق ملتهب، وبعاد يصليه ناراً، وعبّر عن ذلك في جزء من رسالة بعثها لها “ورغم ذلك فأنا أعرف منك أيضاً بأنني أحبك إلى حد أستطيع أن أغيب فيه، بالصورة التي تشائين، إذا كنت تعتقدين أن هذا الغياب سيجعلك أكثر سعادة، وبأنه سيغير شيئاً من حقيقة الأشياء، أهذا ما أردت أن أقوله لك حين أمسكت الورقة؟.. لست أدري..ولكن صدقيني يا غادة أنني تعذبت خلال الأيام الماضية عذاباً أشك في أن أحداً يستطيع احتماله، كنت أجلد من الخارج ومن الداخل دونما رحمة وبدت لي حياتي كلها تافهة، واستعجالاً لا مبرر له.
” كل هذه العناوين المسجلة فوق، على ضخامتها، ليست إلا أربع طاولات على شاطئ البحر الحزين، وأنا، وأنت، في هذه القارورة الباردة من العزلة والضجر، إنه الصباح، وليلة أمس لم أنم فقد كان الصداع يتسلق الوسادة كجيوش مهزومة من النمل، وعلى مائدة الفطور تساءلت: هل صحيح أنهم كلهم تافهون أم أن غيابك فقط هو الذي يجعلهم يبدون هكذا؟ ثم جئنا جميعاً إلى هنا: أسماء كبيرة وصغيرة، ولكنني تركت مقعدي بينهم وجئت أكتب في ناحية، ومن مكاني أستطيع أن أرى مقعدي الفارغ في مكانه المناسب، موجود بينهم أكثر مما كنت أنا.
إنني معروف هنا، وأكاد أقول (محبوب) أكثر مما كنت أتوقع، أكثر بكثير، وهذا شيء في العادة يذلني، لأنني أعرف بأنه لن يتاح لي الوقت لأكون عند حسن ظن الناس، وأنني في كل الحالات سأعجز في أن أكون مثلما يتوقعون مني، طوال النهار والليل أستقبل الناس، وفي الدكاكين يكاد الباعة يعطونني ما أريد مجاناً، وفي كل مكان أذهب إليه أستقبل بحرارة تزيد شعوري ببرودة أطرافي ورأسي وقصر رحلتي إلى هؤلاء الناس وإلى نفسي.. إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب، ولكن أيضاً بذل من طراز صاعق”.
ظلت رسائل “غادة السمان” و”غسان كنفاني” مزاراً أدبياً مقدساً لعشاق الأدب والنثر في العالم، حيث ترجمت إلى عدد من اللغات العالمية، وإن كان أكثر ما أعجبني في الأمر هو جرأة “غادة” التي تجلت في نشرها لرسائل غرامية خاصة بها، وحرصها على مسيرة الأدب كي لا تفقده كل تلك الكلمات الغارقة في العذوبة، بيد أننا لا ندري أن مشاعرنا التي تنتج ذخيرة أدبية يجب ألا تبقى سجينة القلوب والحنايا.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية