حينما بكى الفنان "محمود عبد العزيز" وبكيت معه!!
منَّ الله علينا بأداء فريضة الحج، زوجتي والعبد الضعيف إلى رحمة الله وثلة من الأصدقاء المبدعين.. كان ذلك قبل سنوات قليلة ماضية، وأدركت حقاً أن الحج لله وحده، وهنالك منادٍ ينادي الحجيج، وإذا نادى لبوا النداء. ولحجتي قصة، فقد اتصل بي الأخ الأستاذ “عبد الرحيم”، أحد مديري الإذاعة التي تعظم الحبيب المصطفى “صلى الله عليه وسلم”: (جيب لينا جواز السيدة حرمكم).. (خير إن شاء الله)؟! (خير بعد بكرة نمشي الحج).. وكان المنادي (وأذن في الناس بالحج..) صدق الله العظيم، والخطاب في الآية من العلي القدير موجهاً لسيدنا “إبراهيم” عليه السلام.. وهكذا فرض الله سبحانه وتعالى الحج، ومن رحمته بخلقه على من استطاع إليه سبيلا، وسهل الله لنا أمر أداء الفريضة وتمتعنا بصحبة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم).. لكن أحدهم – سامحه الله – كان وزيراً للثقافة والإعلام، وقد فشلت فشلاً ذريعاً في صداقته برغم قدرتي الفائقة على التعرف إلى الناس وصداقتهم، قال لي: (حجتك دي ما حجة.. الحجة لازم تكون بي مالك، مش دعوة من ناس إذاعة ساهور)، وذلك الوزير نسي أن الأمور كلها بيد الكريم رازق الدود في الحجر ومجري النور في البصر وواهب الحب والثمر، وما المال إلا مال الله يرزقه لمن يشاء، (ومن شر الحاسد إذا حسد)، بالله دي مش حسادة ساكت؟! طيب كيف أكون مستطيعاً ولست وارث ولا صاحب عقارات أو إيجارات، بالكاد المرتب يصلنا منتصف الشهر.. وبعد دفع قيمة إيجار المنزل؟ والحمد لله رب العالمين على النفس الطالع ونازل، و(من كل فج عميق) يعني من سقط لقط، وفعلاً ده البيحصل كل عام.. من كل فج عميق، وليست هناك منفعة ينتفع بها الإنسان أنفع من عودته كمن ولدته أمه إذا تقبل الله حجته.
والحديث عن مجموعتنا (أولاد ونساء حجتنا)، مجموعة طيبة، جلهم من أهل الإبداع كما أسلفت.. نزلنا بفندق فاخر بالمدينة بالقرب من الحرم النبوي.. خطوات والحجرة الشريفة.
كنت في كل يوم أنظم قصيدة في مدح الحبيب، بلغت ثماني قصائد، أكتبها في الكرتون الذي يحضرون لنا فيه الطعام، من بين تلك القصائد (وداع المدينة) التي صدح بها (ود حجتي) المطرب “عصام محمد نور” الذي أكرمه الله واصطحب والده معه ولحق بهما شقيقه المقيم بمكة الذي توفاه الله لاحقاً بمكة يرحمه الله. “عصام” وأسرته عاشوا فرحاً شديداً وهم يؤدون فريضة الحج، وتمنيت لو أتاح الله لكل أسرة مسلمة مثل ما أتيح لـ “عصام”.. تخيل أنت وأسرتك في ثياب الإحرام تتغنون بعبارات التلبية (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) وهي متعة لا يشعر بها إلا من أدى مناسك الحج.
وفي الأمسيات والقيلولة كنا ندندن بالمديح الذي نظمته مع شيخ إذاعة (ساهور) الداعية والشاعر المجيد، والطريف أن هناك من أنكر علينا المديح في حضرة الحبيب، وخاض معنا في حوار فج مفاده حرمة الغناء والمديح، وكأنهم لم يسمعوا أخبار أهل المدينة حينما استقبلوا الحبيب (صلى الله عليه وسلم) بالأناشيد والدفوف (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.. وجب الشكر علينا ما دعى لله داع)، ولو كان لأهل المدينة (أوركسترا) كاملة الآلات الموسيقية لأحضروها وعزفوا (طلع البدر علينا).
وكان من أولاد حجتي المفكر والداعية الشيخ “عطا” والسيدة الفُضلى والدته، وقد أفاضا من المحاضرات الدينية الخاصة بالسنة المطهرة ومناسك الحج، وتمتعنا بشرح لسورة (الحج) الفريضة الوحيدة التي نزلت في شأنها سورة من القرآن الكريم، ودعاني الشيخ “محمد عطا” للسعي في ساعات أولى من الصباح عسى أن يخف البيت العتيق من زحمة الحجيج، وصعدنا أعلى مباني الحرم وسعينا سعياً مشكوراً، ولحظتها أمعنت النظر وأصغت السمع وأنا أنظر من أعلى لبيت الله الحرام الذي جسد لي مشهد عجيباً.. أموج متلاطمة من البشر (من كل فج عميق) تداعوا مثولاً لطاعة الله لأداء فريضته.. وكاني به نفس المشهد حينما ينفخ “إسرافيل” تلك النفخة التي نخرج فيها من الأجداث منسلة ليوم المعياد والحساب، وهي ساعة يجتمع فيها كل (المخاليق)، والمشهد الذي أمامي كل البشر باختلاف سحناتهم وألوانهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) الآية 4 من سورة الحج.. اقرأها يتجسد لك مشهد (الخليقة) ويوم القيامة حينما تشهد مشهد الطواف بالبيت وزحام الحجيج، فالناس سكارى، وما هم بسكارى وكلٌ في شأن يغنيه، والمآقي مليئة بالدموع، والزي موحد.
وقد فشلت في تقبيل الحجر الأسود، والطائفون يتدافعون لتقبيله.. يصدمك حاج أو يحتك به، لكن لا عتاب ولا شكوى، بل رضاء يكسو الوجوه، والنفوس في سعيها راضية.. وضاعت زوجتي ولم تهتدِ لمكان إقامتنا لساعات.. ووالله لم أنشغل بغيابها لأني أعلم علم اليقين أنها في رعاية رب البيت الخالق لكل الوجود، وحينما جاءت بعد ساعات سألتها إن كانت قد انزعجت، فأجابتني: على العكس فقد كنت سعيدة غاية السعادة لأني سرحت عبر القرون وأنا أسترجع بداية دعوة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وكنت أسترجع حديث سيدنا “إبراهيم” لأمنا حينما عزم على تركها في ذلك الوادي الموحش الذي لا زرع فيه ولا ماء (لمن تتركنا؟)، وسيدنا “إسماعيل” طفل رضيع بين يديها، فرد عليها بأنه تركها للذي لا تُرد ودائعه ولا تضيع، وانبلج الماء تحت أقدام الطفل سيدنا “إسماعيل”، فكانت بئر زمزم التي هي معجزة الزمان منذ تلك القرون السحيقة.. لن ينضب ماؤها إلى ديون الدين، وماؤها فيه شفاء للناس.
وبينما نحن نهرول من الصفا والمروة أعلى بناية الحرم، سمعت أصوات البشر تردد التلبية كأعذب سيمفونية موسيقية مكونة من أصوات الحجيج أعراب وعجم وزنوج وبيض وصفر، والنور والعطر يطفح من أنفاسهم.
ونحن بالمدينة المنورة حظينا بالإقامة في فندق على مرمى حجر من الروضة الشريفة والحرم النبوي، والحق يقال حسدنا أنفسنا على المتعة التي حظينا بها من أداء للصلوات الخمس في الحرم النبوي وزيارة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بالروضة الشريفة وصلوات الجنازة على المحظوظين الذين توفاهم الله بالمدينة، وشيعنا جثامينهم بالبقيع حيث مثوى آل البيت وصحابة الحبيب (صلى الله عليه وسلم).. ونعمنا برؤية حمام المدينة الذي ملأ ساحة البقيع، والحمام يلتقط الحب من الحجاج مطمئناً بلا وجل أو خوف، وطعمنا من بلح المدينة حتى عفنا طعام الفندق، وشربنا ما شاء لنا من نبع زمزم.. وابن حجتي تلميذي الفنان “محمود عبد العزيز” (شال كاس) الحجة، إذ آثر المقيل بالحجرة الشريفة، وكلفني أمير حجتنا الأستاذ “عبد الله” مدير قناة (ساهور) بأن أستدعي “محمود عبد العزيز” ليتناول وجبته، فذهب إليه واستأذنت حرس الحجرة الشريفة، فأذنوا لي فدخلت، وسلمت على الحبيب وملأتُ رئتيَّ من عطر المكان، وملأ الخشوع جوانحي وأحسست أنني أسبح في بحر من نور وعبير، وفاضت أدمعي خشية ومهابة وحباً، وفاضت مخليتي (أهذه حجرة أمنا الحميراء؟ أهذا هو المكان الذي آوى أفضل خلقه؟)، فازدادت نبضات قلبي ودنوت من “محمود” وهمست في أذنه (قوم أكل ليك حاجة). قال: (والله يا أبوي ما جيعان)، ورحنا في عناق روحي بللته الدموع.. (طيب قوم ارتاح شوية).. (أرتاح؟ وفي راحة ممكن ألقاها في الدنيا زي المكان ده؟!)، يا سبحان الله وبرغم أن الحرس المشرف على الروضة الشريفة يمنعون أي حاج من التلكؤ أو الانتظار عند الروضة الشريفة، إلا أنهم استثنوا “محمود عبد العزيز” إذ قال لي أحدهم (أترك الفنان.. الرجل محب). والحادثة الثانية لـ “محمود” أنه اختفى فجأة وعلمنا مؤخراً أن بعض أصدقائه سرقوه من المخيم، وفي اليوم التالي قلقنا عليه لأننا تحركنا للوقوف بـ (عرفة)، والحج عرفة كما تعلمون، فإذا بمحمود يحضر عصراً ضاحكاً ويبدأ في الصعود إلى جبل عرفات ملوحاً لنا بيديه. وأتيحت لنا زيارة مقابر الشهداء من الصحابة وقرأنا الفاتحة، وأشار لي أحدهم على قبر سيدي حمزة، وتذكرت قصة استشهاده وأخذت المشاهد تترى لمعركتي (أحد) و(بدر) ورائحة العطر النفاذ تفوح من باحة المقبرة. وكان الأخ الرئيس (ود حجتنا).. التقيناه عصراً بالحرم النبوي، سلمنا عليه وتبادلنا التهاني (حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً)، سألني أحد الحجاج وكان مصري الجنسية: هل هذا رئيسكم البشير؟.. قلت له: (نعم)، قال لي: (عجيبين يا أهل السودان؟). ثم كانت فرحة العيد، ونحر الخراف فداءً وإنفاذاً لما أُمر به سيدنا إبراهيم (عليه السلام) حينما رأى في المنام أنه أُمر بذبح ابنه سيدنا إسماعيل (عليه السلام) الذي رد على والده أن افعل ما تؤمر به ستجدني من الصابرين.. إلى آخر قصة الفداء حينما جاء سيدنا “جبريل” بالكبش فداء لإسماعيل.
وكل عام وأنتم بخير