بروفيسور "كليف": من برّ الله بنا أن عشنا في عصره ، "عبد المجيد إمام" .. القاضي العظيم في ثورة أكتوبر..!!
“عبد المجيد إمام” أم درماني بخمسة جدود، ولد في عام 1918م.. أهله موزعون بين حي البوستة و(أبو روف) والموردة.. زوجته “عواطف” امرأة عادية، وله منها بنتان، “عائشة” على اسم أمه التي توفيت وعمره خمسة أعوام، وتعمل مستشاراً بديوان النائب العام.. و”عازة” على اسم أرض السودان، وتعمل بالمصرف العربي.
ومثل أي أمدرماني في أواخر القرن الفائت، دخل”عبد المجيد” خلوة الفكي “العبيد” بالموردة، وخلوة السادة الأدارسة بالقرب من منزل القائد “عبد الرحمن النجومي” والبطل “عبد الفضيل الماظ”.. ودرس في الأميرية ومدرسة الموردة وكلية غردون، ثم نال شهادة فوق الجامعية من لندن، ونال إجازة (الباريستر) في القانون، وعمل قاضياً حتى وصل منصب نائب رئيس القضاء في 1964، وفي عهد مايو أحاله “النميري” للتقاعد، ثم جاء نائباً عاماً في 1975 لمدة سنة واحدة، ثم محامياً إلى أن توفي 1999م.. كما حاضر بجامعة الخرطوم و(الفرع)، وفي 1943 كان نائب رئيس رؤساء كلية غردون وسكرتير اتحاد طلبة المدارس، نواة جامعة الخرطوم.. معه “أحمد خيري” و”مبارك زروق”.. وفاز بجائزة أجمل حديقة زهور منزلية، منحه إياها السفير الياباني.. ومثل السودان في محافل دولية، وهو مؤسس لحزب المؤتمر الوطني منذ 1985م.. ومن الغرائب أن توقيت وفاته صادف ليلة الأربعاء 20 أكتوبر 1999 بالمملكة العربية السعودية، ودفن بمقابر حمد النيل يوم الخميس 28 أكتوبر.
{ جذور متسامحة!
ينتمي “عبد المجيد” لجذور جنوبيّة.. جده لأبيه شلكاوي، وجده لأمه من الشمال، ومثل حال معظم عائلات أم درمان فعائلته متلاقحة متسامحة، إذ بعد دخول الأتراك حدثت مصاهرات من مختلف الأجناس مع الجنس السوداني.. جاءت بنتيجة هذه السمرة.. “إمام” ومعه “عبد الفضيل الماظ” و”علي عبد اللطيف”.. كلهم يتشابهون في الإيمان بالوحدة.
ويقول “أبو جديري” مرافق “عبد المجيد إمام” لسنوات وسنوات، يقول: (لو عاش “إمام” أيام حدوث الانفصال لمات بسكتة قلبية؛ لأنه كان وحدوياً من دمائه، وفي بيت السفير الألماني – في إطار دراسة مشكلة الجنوب – قال “إمام” كلمته بوضوح فأزعجت كثيراً من الدوائر والأصدقاء، وكان رافضاً أي رؤية خارجية لفهم الحالة السودانية بصورة سطحية.. وكان “إمام” هادئاً جداً ومقلاً في الكلام، ولا يعرف القلق، ويرفض الوشاية والنميمة، وإذا جلس مع المحامي أو الطبيب أو الفيلسوف تجده عالماً في كل المجالات، ملتزماً في كل خطى حياته بالعدالة والحكمة في داخله، مفكراً عميق الفهم، يحترم كل المقتضيات.. ونال احترام الجميع، حيث كان يرأس الاجتماعات الاستشارية التي كان يدعو لها رئيس الوزراء آنذاك “الصادق المهدي”.. وكان “إمام” معارضاً للدكتاتوريات من الدرجة الأولى.. كان مكتبه في الجزء الشرقي من منزله، وكان منظماً وأنيقاً، لا يهتم بالأكل، ويبتسم باستمرار.. زوجته “عواطف” سنده الدائم.. وبيته مفتوح لأعضاء الحزب وزملاء المهنة.. وكان “إمام” بالإضافة لكل تلك الأعباء عميد الأسرة الكبيرة، وعراب المقولات الأخيرة (السودان يسع الجميع) و(دولة مدنية ديمقراطية موحدة).. وكل المفاهيم الليبرالية ولدت على يديه بشجاعة المفكر بالنظرة البعيدة والثاقبة.. ويرتدي “إمام” الجلابية والطاقية طوال الوقت، ويلبس العمامة إذا خرج لمناسبة أو أي (مشوار) بعيد بعض الشيء)..
ويواصل “أبو جديري” إفاداته، ويقول: (حكي لي “عبد المجيد إمام” أنهم أثناء تعليمه بمدرسة الأميرية، قاموا برحلة شمالاً حتى ود البخيت، وكانت أم درمان مليئة بالخلاء وشجر الدوم، ووسيلة المواصلات الحمير واللواري.. يمشون كفرقة الكشافة خارجين عن التقاليد حسب أحلام عمرهم.. حتى وصلوا لنصب تذكاري للجندي المجهول يخص الانجليز.. فكتبوا أسماءهم على النصب التذكاري، وفي اليوم التالي جلدوا في الطابور بشكوى من الحاكم العام على إهانة النصب الانجليزي)..! ويواصل: (كان “عبد المجيد” يصف السودانيين بأنهم شعب طيب يستحق أن يحكم بالديمقراطية والعدل.. وفي مشكلة استيلاء المؤتمر الوطني على اسم حزبه الأصلي أوصى “إمام” – إذا لم يسترد الاسم بالمحكمة – أن يسمى الحزب بالأرض الطيبة أو المؤتمر السوداني، كما أوصى بأن لا نحتفي بالخصومات مهما كانت الأسباب.. وأكد أنه في 2010 “سيكون لحزبنا كلام تاني” إذا أمدّ الله في الآجال، وبعد وفاته حدثت هزة داخل الحزب، حينما انسلخت مجموعة “عبد العزيز خالد” وأسست قوات التحالف الوطني السوداني)..
وعن ثباته وقوته، يقول محدثنا: (كان لا يعرف اليأس أو التردد، ويقرأ علينا بيت شعر لعراقي (صبروا صبروا حتى انتصروا)، وكان كاتباً ذا مفردة فنانة وقارئاً نهماً يختار بدقة كتبه، ويدون تفاصيل وقصاصات متفرقة يستخدمها في مكانها، لكنه الوحيد الذي يربطها في نسيج من الأفكار المترابطة.. وكانت علاقته طيبة مع الجميع بميزان استمرارها رغم الاختلاف الذي لم يفسد عند “إمام” قضية أبداً، وقد أعد دراسة عميقة لتوضيح العلاقة بين الدين والدولة، وطلب منه مولانا “محمد عثمان الميرغني” ديباجة لقبول المواضعة في اتفاقية (الميرغني – قرنق) حول تجميد الحدود لتمرير الاتفاق كاملاً، وجلب السلام، وكان معه في أداء هذه المهمة مولانا “عبد الجبار المبارك” وشيخ “الجزولي”، واقنعوا مولانا حينها بوجاهة الأفكار من أصول الدين الإسلامي).
{ مثال للعفة والانضباط
وتحدث “عبد القيوم”، وهو من أصدقاء “عبد المجيد”، قائلاً: (إن “إمام” مثال للعفة والانضباط.. كان طموحاً ومؤمناً بالعدالة طريقاً ًلأي إصلاح سياسي.. ويرى السودان بهجينه القديم الضامن الوحيد لوحدته، وأن الرعاية للتلاقح بين تاريخه وجغرافيته بمزيد من الانفتاح على الآخرين هو طريق الوحدة بدون أن تكون هنالك هيمنة لمركز، أيا كان هذا المركز، ولو ديني أو عرقي)، وأضاف: ( من الصدف أن يباع منزل أسرة “عبد المجيد إمام” وتتوزع الأسرة نصيبها، وقمنا بتأجير منزل يرعى الثقافة والدراسات، والمنزل يخص المرحوم “يوسف التني” شاعر (في الفؤاد ترعاه العناية) وولده السفير أحمد يوسف التني).
ويواصل “أبو جديري” إفاداته، ويقول: (في يوم تكوين “جاد” تم توقيفنا وكنا حوالي 100 شخص، وتم تحويل معرض الحزب بكامله لجهة غير معلومة، ويكاد كل من يتطرق لثورة أكتوبر يحكي دور “عبد المجيد إمام” وما فعله في دار القضاء وكلماته الحاسمة لضابط البوليس (أنا قاضي اذهب بقوتك ودع المسؤولية لي)، وكانت لحظة مفتاح الأحداث.. كان “أبو رنات” داخل دار القضاء ومعه “عبد المجيد” الذي يراوح بين الداخل والخارج وكان اليوم إجازة، ومن الضروري الحصول على إذن تسيير مظاهرة سلمية، فكانت ليلة المتاريس وإعلان الاعتصام امتداداً لثورة أكتوبر المتدفقة من يوم 21 أكتوبر).
{ بقلم “كليف” من أجل “عبد المجيد”
وكتب البروفيسور “كليف توموسون” (من بر الله بنا أن عشنا عصر “عبد المجيد إمام”)، وأخذ يصف ذلك الرجل الودود والجاد بقامة طويلة ولون أخضر وطلعة بارزة وكتب: (لـ”عبد المجيد إمام” قامة طبيعية تجعل من يراه مرة لا ينساه أبداً، فهو يبلغ أكثر من ستة أقدام طولاً تحيله ممشوقاً وقوامه ساطع يغلف جلده الأسود الناعم وعظام خده بصورة وثقى، وله مع ذلك وجه منبسط يشع بالمودة، وهو خفيض الصوت إذا تحدث، ومرح في القول، وإذا طلبت منه النصح أبداه لك بأريحية، ودون ذلك تجده يصمت، ولا ينم عن بنت شفة، وبياض عيونه كالعاج.. فاقع لا يشوبه لون آخر ولا حتى ذلك اللون البنفسجي الباهت الذي تجده في ركن عيون الناس، وإذا نظر إليك مباشرة لا ينوي بذلك تحدياً، بل من فرط عذوبيته، وقبوله لك، وكأنه يتعاطف مسبقاً مع ما لم تصرح به من قلق وشكوك). انتهى حديث البروفيسور “كليف”.
{ يوم المتاريس!
ونعود مرة أخرى مع “أبوجديري” وهو يحكي عن تجمع يوم المتاريس: كان وزير الداخلية اللواء “حسن بشير” يصدر الأوامر بفض مسيرة الاحتجاج أمام دار القضاء، وكان اللواء “عروة” في مكان ما يصدر أوامره أيضاً، وكان الضابط “قرشي فارس” يمسك يده على الزناد – لحظة مليئة بالدراما والتمثيل مع كامل الجدية – يهدد “عبد المجيد إمام” الذي جاء جارياً من داخل دار القضاء تاركاً “أبورنات” وآخرين لصياغة الإذن للاحتجاج.. وفجأة صمت الجميع، وكان “مجيد” يقترب من الضابط والضابط يمسك بالزناد بعزيمة من أسنانه ليربط أجزاء إصراره ويقول لـ”إمام”: (توقف وإلا أطلقت عليك النار)، كان “إمام” يردد (كرامة.. كرامة.. كرامة) وقال: (أنا قاضٍ آمرك وقوة الشرطة التي معك أن تنصرفوا وأتحمل أنا كامل المسؤولية)، وانسحبت القوة وبالفعل وحياه الضابط بتحية عسكرية، وبدأ الاعتصام الذي فجر ثورة أكتوبر بالمدنيين من كل صوب يصيحون (عاش.. عاش.. عاش.. عبد المجيد إمام) في الطرقات والأزقة كان موكب المهنيين، ثم أعلن “عابدين إسماعيل” نقيب المحامين العصيان المدني.
{ صورة أخيرة عن لحظات مهمة في أكتوبر
ويقص “أبو جديري” مشهداً من حوادث أكتوبر ويقول: كانت هناك عربة تقل كلاً من دكتور “حسن عبد الله الترابي” و”فاروق أبو عيسى” و”عبد المجيد إمام”، وكان النقاش ساخناً بين “الترابي” وأبو عيسى”.. كان “الترابي” يقول لـ”أبو عيسى” بما يفيد أن إذاعة البيان باختراق الثورة بيان لا داع له، وكان “فاروق” يرد ويهاجم حتى وصل بهما الحال لمشادة ومسك “فاروق” دكتور “الترابي” من رقبته وكاد يخنقه خنقاً، وكان “الترابي” يدافع عن نفسه كيفما اتفق داخل العربة.
{ تواضع العلماء
الفقرة التالية يرويها الدكتور “الفاتح عمر السيد”، نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني، ويقول: (كان “عبد المجيد إمام” متواضعاً لدرجة محيرة مع علمه الغزير، وثقافته، وتمكنه من نواصي الكلام.. يمكن أن تدخل عليه في غرفة نومه وتحدثه، ويتحدث معك بالود ذاته والصدق والتجرد والأريحية، وحينما كان رئيساً للحزب كان يأتي للاجتماعات بعربة تاكسي أجرة، وكان يقول الحق ولو على نفسه.. كان شجاعاً.. إنسانياً.. ومتصالحاً مع نفسه، ولا يغضب إلا لظلم.. ساخراً وصاحب نكتة محكية، ولا يفارق مكتبه (سيرمس) الشاي). ويحكي “أبوجديرة”: (ذات يوم دخل شمّاسة على “إمام”، وكانوا يحومون في البيت ومكتب الحزب وأعطوه أموالاً معها (جراكن مويه)، وقالوا إنه دخلهم خلال يومين، فضحك معهم وقال: أديناكم القروش عشان ما ترجعوها أبداً أبداً أبداً)..!
و يواصل “عمر السيد”: (كان “عبد المجيد” يتحمل كل ألوان الناس كأنه طبيب نفساني خبير بطباع الناس من حوله، وحينما تم إعفاؤه من منصب نائب رئيس القضاء بعد انقلاب “حسن حسين” متهماً بالمؤازرة، أخلى البيت الحكومي في ذات ليلة إبلاغه، وحمل عفشه فوق عربة (كارو) متوجها إلى بيت أخيه بأمدرمان، وإذا سُئل عن ثورة أكتوبر في حياته الأخيرة كان يقول: لقد أنجزت ثورة أكتوبر عملها الثوري على أكمل وجه هو إسقاط النظام العسكري).
ويختم “الفاتح”: (أجمع الناس على فرادته، وكان يتحكر في وسط المستقلين حقيقة لا مجازاً، واشتد به المرض فأجبرناه على السفر للملكة العربية السعودية، كان يعاني من سرطان الفم.. سرطان اللثة)..
{ وبعد..
يعد “عبد المجيد إمام” (بطلاً من أكتوبر)، وغيره بعدد الحصى في متر مربع من الرمل.. كلهم يتحسرون على الثورة ومبادئها حكاياتها وآمالها والفرص الضائعة، ومن الذي نحرها من الفؤاد، أو قل ما تشاء، حتى صارت أكتوبر مبكىً عريضاً، وقد مل القارئ في كل ذكرى ذات الحكايات والدموع والتفاصيل والاعتذارات والاتهامات.. ومع ذلك ثمة حقائق جديدة ورجال جدد يظهرون بوقائع أخرى، ولكن لا أحد يمس الجوهر (عظمة أكتوبر).