أخيراً الحرب على الفساد!!
سنوات طويلة انصرمت منذ مطالبة الصحافيين والكُتّاب وبعض السياسيين من داخل المؤتمر الوطني ومن خارجه بإشهار سيف الحرب على الفساد والمفسدين، وكان حتى وقت قريب كل من يتحدث عن الفساد في الدولة يتم تصنيفه بالمعادي والمتربص بالحكومة، أشخاصاً وتوجهاً، حتى الشيخ “حسن الترابي” عليه رحمة الله حينما برأ ذمته وانتصر لأخلاق الداعية وقيم الأستاذ الجامعي والمربي، وقال إن الفساد في النظام الحاكم بلغ بضعاً في المائة، استلت الحكومة سكاكينها ونفخت أوداجها وشحنت بطاريات إعلامها للنيل من “الترابي” حراً طليقاً والنيل منه سجيناً بين القضبان يعاني من جور التلاميذ وخيانة الحيران.
وصِف “الترابي” بكل شيء وتم تجريده حتى من بطاقة الانتماء للحركة الإسلامية من قبل الذين جاء بهم لتكبير كومه، ولكن فجأة أيقنت الحكومة أن أكبر مهدد لوجودها هو الفساد.. وأخطر المعارضين والمهددين لبقائها ليس بقية التمرد في دارفور ولا شباب المؤتمر السوداني الثائرين ولا شيوخ المعارضة، وإنما الفساد الذي نخر في عظم الدولة وأكل شعاب الراكوبة التي يجلس عليها “البشير”.
واستعان الرئيس في حربه على الفساد بأقوى عناصره وأكثرها تقديراً له.. إنه الفريق “صلاح قوش” الذي يعرف من هم الطغاة الفاسدون وطرائق نشاطهم في جسد الدولة وامتداداتهم في المصارف الداخلية وشركاتهم الخارجية.. وتولى الرئيس الملف الاقتصادي بنفسه من خلال لجنة رفيعة في القصر، نجحت بحزمة تدابير إدارية وأمنية في السيطرة على الدولار، وإنقاذ الجنيه من السقوط.. وبدأت إجراءات صارمة بالحبس والتحري مع بعض المسؤولين في القطاع الاقتصادي والأمني وتمت إحالة “عبد الغفار الشريف” الضابط ذائع الصيت في السنوات الأخيرة إلى التقاعد.. وتم حبس مدير بنك فيصل الإسلامي، وتبعه مدير شركة سكر كنانة.. وبهذه الإجراءات الكبيرة ارتعدت أوصال عديدة.. وأنتاب الخوف رؤوس كبيرة.. وأيقن الجميع أن حبس هؤلاء الكبار، وقد أطلق عليهم الرئيس صفة (القطط السمان) يمثل الصفحة الأولى من ملف محاربة الفساد ونظافة ثياب الدولة من الدرن والأوشاب.. وإعادة الثقة للمواطنين بأن الإجراءات الاقتصادية مهما كانت قسوتها إلا أنها قد تثمر في نهاية العام عن نتائج إيجابية.. وحبس كبار المسؤولين، ولن نستخدم مصطلح (اعتقال) لما ينطوي عليه من دلالات وظلال سياسية، يبدو إجراءً أولياً تعقبه محاكمة تطال كل من يثبت عليه ثراء غير مبرر ولا يُعرف مصدره.. وكما يقول المثل الشعبي (الرئيس ذبح الكديسة) لكن بعد الذبح السلخ.. ولن تتوقف إجراءات الحبس والمحاكمة على فئة دون أخرى حتى تستقيم الحياة الاقتصادية، وهذا من شأنه كتابة عمر جديد للنظام ومنح الرئيس شهادة خلو طرف من تهمة رعاية وإسناد وحماية الدولة للمفسدين في الأرض، وهو الاعتقاد الشائع من قبل حيث كانت الحكومة ورموزها تطالب من يتحدث عن الفساد أن يأتي بدليل ووثائق تثبت ادعاءه.. واليوم يكشف الرئيس عن عزمه القضاء على الفساد بنفسه ويقطع على نفسه عهداً أمام نواب البرلمان بنصفه المنتخب ونصفه المعين بأن رقاباً عديدة ستطالها سيوف العدل المشهرة من أجل إحقاق الحق وإعادة الحليب لأفواه الأطفال بعد أن سرقه السارقون، ونظافة الدولة من النهابين وعصابات المال العام التي تطاولت في البنيان وتراكمت أرصدتها في المصارف داخلياً وخارجياً.
والرئيس في حربه على الفساد لن يرهق نفسه كثيراً، ستأتي إليه الوثائق والملفات تمشي مسرعة ولا تنتظر غير إحالتها لمولانا “عمر أحمد” النائب العام لتقديمها لمحكمة المال العام حديثة الإنشاء.