“قوش” كبير ولم يأتِ للتصفيات الشخصية مع تلاميذه أو خصومه
حديث السبت
يوسف عبد المنان
لم يحظَ قرار تعيين مسؤول حكومي صغر منصبه أو كبر بالاهتمام والتعليق وقراءة ما بعد القرار وما قبله، مثلما حظي قرار تعيين الفريق “صلاح قوش”، في منصب المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات، وهذا الاهتمام الكبير الذي شغل ساحات المعارضة والحكومة، يدل بدرجة ما على أهمية جهاز الأمن والمخابرات وتأثيره السياسي والأمني والاقتصادي من جهة، وبريق ورهبة موقع المدير العام لجهاز الأمن.. وإذا كان تعيين رئيس لمجلس الوزراء بعد بدء تنفيذ مقررات الحوار الوطني لم يحظ بهذا الاهتمام الكبير من قبل أجهزة الإعلام.. ولا تعيين الفريق “عوض ابن عوف” وزير الدفاع الذي يمثل منصبه أهمية كبيرة.. في الدولة وجاء تعيين الفريق “عوض ابن عوف” أيضاً في ظروف مشابهة لعودة “قوش”.. وكلا الفريقين خرجا من المؤسسة العسكرية في ظروف غير طبيعية ذهب الفريق “عوض ابن عوف” إلى الخليج سفيراً ولكن القاعدة العريضة من العسكريين كانت غير مقتنعة بربطة العنق والحديث الناعم مع السفراء وظل “عوض ابن عوف” هو القطعة المفقودة في منظومة هيئة قيادة الجيش حتى أعاده الرئيس “البشير” بصورة مفاجئة.. بعد أن نقل الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” إلى قصر الخرطوم والياً وفي صمت وبعيداً عن الأضواء أعاد الفريق “عوض ابن عوف” تنظيم القوات المسلحة وتطويرها.. ونقلها من حالٍ إلى حال.. وفي الوقت الذي كان التربص بالمهندس “إبراهيم محمود حامد” والحملات على أشدها طمعاً في موقعه وسعياً لإقصائه من الحزب، وقد تولى قذف الرجل من هم خارج مؤسسات الحزب.. واتجهت مؤشرات التغيير إلى وزير المالية الجنرال “الركابي” الذي خذل الفريق “بكري حسن صالح” الذي كان حريصاً عليه وفضله على الوزير الناجح “بدر الدين محمود” وراهن على نجاحه وضبط انفلات المال العام.. وإيقاف الصرف البذخي وكبح جماح بعض مراكز القوى داخل الحكومة. إلا أن الجنرال “الركابي” كان بعيداً عن حياة الناس العاديين لا يشعر بوطأة الفقر.. ولا حالة الحرمان التي يعيشها الناس ولا مكابدة الموظفين من أجل (الخبز الحاف).. فطفقت الرجل في تنفيذ سياسات اقتصادية رفعت الدولار لعنان السماء وهبطت بالجنيه إلى أسفل سافلين.. واضطرت الحكومة في عهد “الركابي” إيقاف مشروعات التنمية.. وإيقاف شراء العربات الحكومية والأثاث والبناء.. وما عادت ولاية الشمالية قادرة على بناء شفخانة في حفير مشو.. ولا يستطيع د.”عيسى آدم أبكر” تشييد نقطة غيار لمساعد ممرض في قرية (لا يده) ولا بمقدور “أحمد هارون” إكمال مشروعات النهضة.. والتنمية.. وتصبح الدولة دولة إعاشة فقط مثل مشروعات في النيل الأبيض التي أنشئت في خمسينيات القرن الماضي، وظلت على حالها لإعاشة المواطنين في أم جر والهشابة حتى قضت عليها الإنقاذ.
{ “صلاح قوش” كبير
منذ تعيين “صلاح قوش” تقافز بعض أصحاب المواجد الخاصة والغبائن.. والأحقاد.. والمشكلات، طفق هؤلاء يتحدثون عن الذين وقفوا شائنين وناقدين لفترة “صلاح قوش” في جهاز الأمن والمخابرات، وذهبت الظنون ببعضهم أو قل حدثتهم أنفسهم الأمارة بالسوء بأن “صلاح قوش” بعد عودة ظافراً ومنتصراً على منافسيه الذين وشوا به الوشايات.. ودبجوا حوله التقارير الكاذبة ومزقوا وشائج العلاقة بينه والرئيس “البشير” حتى استبانت للرئيس أخيراً الحقيقة (عارية) وكشفت الأيام عن معدن الرجل النظيف.. ظن هؤلاء أن “قوش” في نفسه مرارات خاصة.. وحسابات تنتظر التصفية مع الذين (خاشنوه) وهو في المعتقل.. وطالبوا بجز عنقه وهو بين القضبان سجيناً.. وإن “صلاح قوش” لن ينسى الأقلام التي انتقدت أداءه التنفيذي بعد إعفائه وقديماً قيل ليس زعيم القوم من يحمل الحقد.. و”صلاح قوش” رجل دولة يعلم الصادقين من المنافقين ويقرأ الصحافة بعين فاحصة.. وذهن مفتوح وهو أكثر الناس إيماناً بأن الحاكم ممدوحاً من المنافقين وإن أخطأ.. والذين كانوا يمدحون أداء الفريق “محمد عطا” ويتوددون إليه.. ويهرعون لتلبية دعوات زوجته الفاضلة “مها الشيخ”.. لم يغير أحدهم أقدامه لتقديم التهنئة له بمناسبة رفع التكليف عنه.. ولم يكتب قلم واحد منصفاً الرجل الذي جلس في منصب مدير المخابرات لأكثر من ثمان سنوات.. ومد يده الخشنة للتمرد والمتربصين بأمن البلاد.. ومد يده الناعمة للكثيرين ولكن الوفاء في هذا الزمان بات عُملة صعبة.. وبضاعة نفدت من الأسواق.. ولذلك هرع الكثيرون لمنزل “صلاح” مقدمين أنفسهم أخواناً صادقين.. وجنوداً مخلصين، ولكن أين كان هؤلاء يوم أن وقف “صلاح قوش” بين القضبان في نيابة الخرطوم شمال، بجلبابه الأبيض وابتسامته الساخرة.. وكان مع الرجل في كل محنة ومشكلاته وأفراحه وأتراحه صديق عمره وأوفى الأوفياء اللواء “حسب الله عمر”، وكانت ابنة “صلاح قوش” الطبيبة تقف إلى جانب والدها حزينة لا على وضعه في قفص الاتهام، فالعدالة والقضاء لم ينشأ إلا ليقف الناس أمامه عندما صافحت الطبيبة التي ترتدي حجاباً صارماً الزميلين “الصادق الرزيقي” و”رحاب طه” الصحافي المخلص الوفي لـ”صلاح قوش”، كان والدها يقف لوحده أمام القاضي ويشعر الضباط الذين انتدبوا لحراسته والتحقيق معه بالحسرة، ولكن يؤدون واجبهم في انضباط كامل ومسؤولية و”صلاح” يعلم جيداً أن الذين أودعوه غياهب السجن هم قادة البلاد السياسيين، وليس ضباطه في الجهاز الذين من قبل اعتقل اللواء “الطيب الجزار” وأستاذه وشيخه وشيخ “صلاح قوش” نفسه العلامة “حسن الترابي”.. وتلك الأيام نداولها بين الناس.. و”صلاح قوش” رجل دولة كبيرة، معاركه مع أجهزة مخابرات الأعداء.. ومعركته مع المتربصين بأمن البلاد وليست معركته مع الأقلام التي كتبت بلسان الذين (اعتقلوه) ولا معركته مع د.”أحمد بلال” الناطق باسم الحكومة الذي يتحدث بلسان السلطة حينما تريد الحديث ويمسك لسانه بأمر الذين انتدبوه لمهمته المقدسة.
{ الرئيس وخيارات جديدة
أثبت الرئيس مرة أخرى أنه متصالحاً مع أبناء بلاده وعافياً عن أخطائهم.. وكبيراً في رؤيته.. يضع مصلحة البلاد أولاً.. وعودة “صلاح قوش” من القرارات الشجاعة التي تضاهي قرارات الرئيس السابق “جعفر نميري” الذي كان يبحث عن الخبرات والقدرات أينما كانت ولا يلقي بالاً لانتماءاتها القبلية والجهوية، جاء بالمهندس “محمود بشير جماع” وزيراً للري حينما رشحه المهندسون ولم يعر مسألة انتمائه لحزب الأمة التفافة.. خرج “صموئيل أرو بول” من السجن في كوبر لوزارة الحكم المحلي.. وعين “بكري أحمد عديل” بعد المصالحة حاكماً لإقليم كردفان.. واليوم الرئيس شعر بحاجته الشخصية وحاجة الحكومة لوزراء وقيادات تنفيذية تقول نعم هذا المطلوب، ولكن الصحيح كذا يا سيدي الرئيس، اتخاذ “البشير” لمعسكر المسؤولين أصحاب المواقف والقرار بدلاً من المسؤولين الذين يرددون نعم سيدي الرئيس كل شيء تمام.. ونحن حاضرين!!
شبعت الدولة فشلاً في القيادات الضعيفة التي تنفذ قرارات القيادة ولا تراجعها.. وقد فاض الكيل وأصبح مجلس الوزراء لا يقدم خيارات للرئيس.. ولا يقوم بواجبه المنصوص عليه في الدستور وضعفت شخصية الوزير.. كان بالأمس يجلس “المتعافي” أمام الرئيس ويقدم مقترحاته لتطوير الزراعة.. يرفض الرئيس بعضها ويجادله الوزير بالحسنى منافحاً عن رؤيته.. ويخرج من مكتب الرئيس راضياً، أما اليوم فإن وزير الزراعة إذا دخل مكتب الرئيس ترتعد أطرافه خوفاً على منصبه.. ويتحاشى بعض المسؤولين من شدة ضعفهم لقاء الرئيس وجهاً لوجه.. لذلك ضعف أداء الحكومة ووهنت.. ولا سبيل إلا بالعودة لشخصيات مثل “صلاح قوش” له رؤيته وينافح عنها.. ويقدم للقيادات خيارات عديدة في كل شأن.. حتى المعتقلين كان “صلاح قوش” حينما تصدر إليه التوجيهات من أعلى يراجع القيادة العليا.. ويناقشها عن سلبيات الاعتقالات وضروراتها في بعض الأحيان ولا ينفذ “صلاح” ما يتنزل عليه من غير دراسة وتأني، كل ذلك لمصلحة البلاد.. لذلك كانت محنة الانقسامات في وسط الإسلاميين قد خفت أضرارها.. وجفف “صلاح قوش” الدماء التي كانت تهدد الخرطوم بالغرق من خلال احترازات أتخذها وقرارات نفذها.. ببصيرة ووعي.. لم يتأثر بتحريض التيارات العلمانية المناوئة للإسلاميين داخل البيت الإنقاذي مدفوعة بالتيارات والإحن ومتخذة من الولاء للرئيس أسرياً وعشائرياً ومهنياً منصة لإطلاق الأعيرة النارية على المؤتمر الوطني حينذاك.
{ عودة القدامى
من آثار شعارات مايو وأدبياتها الحديث عن القدامى والجُدد تلك من لغة أهل مايو حينما حلت بدوائرهم وعرصات حكمهم توافد أهل اليمين من قوى المعارضة التي أدركت بعد ثورة 1976م، أو انقلاب 1976م، أو غزوة 1976م، ولكل من الأسماء الثلاثة منطلقاتها.. ويفشل محاولة الجبهة الوطنية بقيادة العميد الشهيد “محمد نور سعد” أقبل الإسلاميون والأنصار على الاتحاد الاشتراكي وتنظيمات مايو فتمترس أصحاب المصالح رافضين دخولهم.. وأطلقوا على المصالحين صفة القادمين الجُدد.. وعلى الحرس القديم بالقدامى ونشب صراع مصلحي وطبقي بينهما انتهى بإدماج “جعفر نميري” حلفائه الجُدد بحراس نظامه القدامى.. واليوم تعود ذات النبرة عن الحرس القديم من لدن “علي عثمان محمد طه” و”عوض الجاز” و”صلاح قوش” و”نافع” و”كمال عبد اللطيف” و”المتعافي” وغيرهم من النجوم التي توارت بين ثورة التجديد التي لم تجد التقييم الموضوعي البعيد عن تزكية فلان.. والنهش في عظم فلان.. وإذا كان “صلاح قوش” و”أسامة عبد الله” و”كمال عبد اللطيف” يذكرهم الناس بالخير.. ومع تجارب “الركابي” و”عبد الرحمن ضرار” و”حازم عبد القادر” ووزير الزراعة “العجيمي” ذرف الناس الدموع على القدامى وانتابتهم الحسرة على أن تبقى تلك النجوم في الرصيف وتأتي الحكومة وحزبها بوزراء لا طعم لهم ولا لون ولا رائحة.. ولكن بذات القدر هناك نجاحات وإشراقات على صعيد الحكم الاتحادي في الولايات، وعلى صعيد الحكومة المركزية.. وإذا كانت وزارات مثل الثروة الحيوانية والطرق والجسور والتعليم العالي والرعاية الاجتماعية قد حقق وزراؤها نجاحات متفاوتة، فإن تجارب الولاة الشباب لم يتم تقييمها بعد بحياد.. وموضوعية من خلال معايير واضحة وليست انطباعات شخصية مثل تهجم الناشطة “تراجي مصطفى” على الوالي الشاب “أبو القاسم بركة” الذي حقق حتى اللحظة نجاحات على صعيد الأمن والمصالحات القبلية وجمع السلاح.. ومن الولاة الشباب الذين حققوا نجاحات يشهد على ذلك أهل الولايات أنفسهم “عبد الواحد يوسف” في الفاشر و”حسين أبو سروال” في الدمازين.. والعميد أمن “أنس عمر” في الضعين.. إضافة إلى الولاة أصحاب الخبرات من لدن “محمد طاهر أيلا” في الجزيرة و”آدم جماع” في كسلا و”آدم الفكي” في نيالا.. ولكن الرئيس بالتوجه الجديد قد يعود مرة أخرى لولاة من أصحاب الشخصية الكاريزمية والرؤى ويعيد “عبد الرحمن الخضر” في الخرطوم بعد أن اكتشف الرئيس ضعف حكومة الجنرال “عبد الرحيم محمد حسين” ويعيد “عثمان كبر” ويذهب به لولاية الجزيرة.. ويعيد “أحمد هارون” إلى الخرطوم في منصب رفيع بمجلس الوزراء حتى يصبح ساعداً أيمناً للفريق “بكري حسن صالح” الذي تقول مجالس المدينة إن التعديل القادم سيشمله ويتم الفصل بين مجلس الوزراء ومنصب النائب الأول.. ليبقى “بكري” في القصر كساعد أيمن للرئيس ينوب عنه ويخفف أعباء الحكم الرئاسي ويأتي بالفريق “عماد عدوي” رئيس أركان القوات المسلحة في منصب رئيس الوزراء.. يتوهم كثير من الناس إن عودة “صلاح قوش” هي الخيط الرفيع الذي سيأتي بالنائب الأول الأسبق “علي عثمان محمد طه”.. وتلك من تسطيحات بعض المحللين “علي عثمان” في مكانه في الوقت الراهن المجلس الوطني لإعادة ترتيب الجبهة القانونية وقيادة توافق سياسي على الدستور المنتظر تعديله في الفترة القادمة.. والرئيس حينما أقبل على مراجعة الأداء كان ينظر إلى مشكلات الاقتصاد وانفلات السوق وارتفاع سعر الدولار ولا يلقي بالاً إلى الانتخابات ومسألة ترشيحه مرة أخرى.. وقد تواترت الأخبار عن تزوير العُملة الوطنية من قبل دولة مجاورة هي مصر بغرض الحصول على الذهب السوداني مثلما سعى لذلك منذ قديم الزمان حاكم مصر “محمد علي باشا”.. فكيف لا يأتي “البشير” برجل مخابرات عرف بالجسارة وعمق النظر خرج من الحكم بسبب مغامرات بعض أبنائه ومؤامرات أبعدته من قيادة الدولة والجهاز لكنه يعود اليوم وفق تقديرات الرئيس الشخصية وحساباته من أجل تجاوز المرحلة الصعبة التي تعيشها البلاد.