الأميّة.. عقبة كؤود في طريق التنمية الشاملة
يُعدّ القضاء على الأميّة أحد أهم أهداف السياسات التعليمية باعتبارها المعوق الأساس للنهضة التنموية والحضارية، والسبب المباشر لتخلف المجتمعات والأمم واضمحلالها، ولأن أرقام ونسب الأميّة في السودان مهولة، وتدعو إلى الحزن، حتى بالمقارنة مع الدول العربية، حيث تبلغ في مجملها ما بين (50 إلى 42%) حسب إحصائيات رسمية، بينما ترتفع لدى النساء إلى (60%).. (المجهر) بحثت في القضية وحملت أسئلتها إلى من يهمهم الأمر.
{ زوجات صالحات ولكن…
الحاجة “نفيسة حسين الشيخ” تجاوزت الـ(60) من العمر، ورغم أنها لا تجيد القراءة والكتابة فإنها لم تتخذ قرارها بعد بالذهاب لفصول محو الأميّة، فما قصتها؟ وما الظروف الموضوعية التي حرمتها حق الحصول على التعليم؟
تقول حاجة “نفيسة”: نشأت في (كردفان)، ولم يكن التعليم في ذلك الوقت مُهماً بالنسبة لنا رجالاً ونساء، لكن فرصتنا في التعليم كنساء كانت وما زالت أقل بكثير من الرجال الذين لم يتجاوز تعليم غالبيتهم المرحلة الابتدائية، وأضافت: التعليم الوحيد الذي كنا نتلقاه هو كيف نصبح زوجات صالحات، تفاصيل إدارة المنزل، الزراعة، الاهتمام بالحيوانات ورعايتها وما إلى ذلك، ومضت قائلة: كثيراً ما سألت أمي عن المدرسة، لكنها لم تكن ترد عليّ، بل تأمرني بالالتفات إلى شؤون البيت، إلى أن تزوجت وأنجبت و(رحلنا) إلى أطراف الخرطوم، فأصبح صعباً علينا الحصول على عمل، فعمل زوجي تاجراً بسيطاً في سوق (6)، وعملت أنا بائعة شاي ولم يفكر أي منا بالذهاب إلى فصول محو الأميّة.
وواصلت: انشغلنا بتربية الأبناء حيث أنجبت بعد ذلك (5) آخرين، فصاروا (8)، وليس لديّ وقت كافٍ للذهاب إلى المدرسة، كما أن نساء المنطقة لم يشجعنني على ذلك، رغم أن معظمهن لا يُجدن القراءة والكتابة، لذا لم أشعر أنني مختلفة عنهن، ولكن الانتصار الكبير الذي اعتقد أنني حققته في حياتي هو تعليم أبنائي جميعهم دون تمييز بين بنات وأولاد، وهنا دعيني أقول عبر صحيفتكم، إنه يمكن للزوجة أن تكون صالحة بتعلمها للطبخ وخلافه من الواجبات المنزلية، ولكن جهلها بالقراءة والكتابة يعيقها عن أداء دورها في المجتمع، ويحرمها من فرص عديدة لتعيش هي وأسرتها حياة أفضل.
{ (3) ملايين طفل خارج التغطية
من جهتها أشارت الأستاذة “صفية عبد الرحمن” مُدرسة في قطاع التعليم، إلى أن العادات والتقاليد والعامل الاقتصادي يلعبان دوراً محورياً ببعض المناطق الطرفية في حرمان النساء بصفة خاصة من التعليم، لذلك تفضل أسر كثيرة تعليم الذكور على الإناث، وأضافت: كما تعاني كثير من القرى في الأقاليم مشكلة بُعد المدارس عنها، الأمر الذي يحدّ من فرص النساء في الالتحاق بها، هذا بجانب بعض العادات الضارة كالزواج المبكر.
ومضت “صفية” قائلة: إن الإحصائيات تدل على وجود (3 ملايين) من الأطفال والشباب خارج فصول التعليم، وإن المناهج المتبعة حالياً لتعليم الكبار هي منهج الأساس والتكميلي الذي يشمل اللغة العربية والرياضيات والتربية الإسلاميّة، وأكدت أن الدعم المادي هو العائق الوحيد الذي يقف في وجه محو الأميّة بالسودان، حيث يحتاج المعلم إلى كتاب مدرسي وبيئة مؤهلة، ولا يجدهما.
{ إحصائيات مرعبة
من جهتهم قال تربويون إن حملات محو الأميّة أسهمت في رفع مستويات القراءة من (27.1%) عام 1990م، للجنسين في الفئة العمرية (15) عاماً فما فوق إلى (52.7%) عام 1999م، وأضافوا إن الجهود تتواصل للقضاء على الأميّة، وبذلك يكون السودان قد حقق أحد أهداف مؤتمر داكار لمحو أميّة النساء والكبار بنسبة (50%) بحلول عام 2015م.
مقابل ذلك تشير إحصائيات سابقة إلى أن نسبة الأميّة ارتفعت بشكل عام من (37% -57%)، بينما ارتفعت لدى النساء إلى (72%)، وأن عدد اليافعين واليافعات الذين يعانون من الأميّة وصل إلى (3 ملايين و125 ألف) حسب إحصائيات المجلس القومي لمحو الأميّة لعام 2004م.
{ عدم جدية الحكومة والعمل بدون رواتب
وفي السياق عدّت الأستاذة “عديلة الزيبق” الأميّة ظاهرة واضحة للعيان وهي تمثل العائق الرئيس في وجه التقدم والتنمية، وأن (الأميّ) محروم من حقوق كثيرة، ولا يشارك في الحياة العامة وأضافت: تؤدي الأميّة إلى انخفاض معدل الإنتاج، لأن الأميّين مضطرون بالضرورة للعمل في مهن هامشية.
وحول موقف الدولة تجاه هذه القضية، قالت الأستاذة “عديلة” إن الدولة غير جادة في هذه المسألة، حيث كان معلمو محو الأميّة جزءاً مهماً من موظفي الدولة، يحصلون على رواتب منتظمة، أما الآن فلا توجد مثل هكذا خدمات، بل لا تتوفر لهم أبسط معينات العمل، وصارت الحكومة تعتمد على طلاب الخدمة الإلزامية وهم غير مؤهلين لهكذا وظيفة حساسة ومهمة.
{ التمدرس وليس محو الأميّة
إلى ذلك قال مدير معهد (سلتي) للغات “د. أحمد الصادق”، إن محو الأميّة أُصطلح على تسميته في الأدبيات الحديثة بـ(التمدرس)، وهو كظاهرة ارتبطت بنظم كتابة اللغات، والأميّة لا تعني نفي الوعي مطلقاً عن شخص ما، لأن الإنسان الذي يعرف الكثير عن الأرض والزراعة والحصاد، لا نستطيع أن ننفي عنه الوعي، وأضاف: إن (التمدرس) تم اختزاله في تعلم القراءة والكتابة بقصد رفد برامج التنمية.
واستطرد مدير (سلتي) قائلاً: برامج محو الأميّة ارتبطت بدول العالم الثالث من بينها السودان، ومن أشهر التربويين في هذا المجال المرحوم الأستاذ “سر الختم الخليفة”، وأخيراً الدكتور “قرمبع” صاحب إحدى أعظم الدراسات في محو الأميّة بالسودان، وفصّل قائلاً: لا بد أن تضع برامج محو الأميّة في أجندتها، بجانب تعليم القراءة والكتابة، رفع وعي الفرد بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وكل ما هو وطني وقومي، والتيار الذي يدعو إلى هذه المفاهيم ظهر في سبعينيات القرن المنصرم، حيثُ يعدّ المفكر البرازيلي الراحل “باولو فريري” أحد أبرز رواده.