خربشات
(1)
“كلتوم”.. صباح الخير.. أنت طيبة.. الشمار كاتلني.. أهلاً “الدقيل” أنت السواطة وقلت الشغلة ما بتخليها من بيوت البكا لبيوت العرس؟
“الدقيل” نمشي وين أنا.. نموت في الفريق الصبحاني.
“كلتوم” تعال أحفر لي وكسر الحطب.
“الدقيل” سمعت “كركاب” جاي بكرة.. لكن هههه!
“كلتوم” بتضحك مالك.. سمعت شنو كلمني بنزيد ليك القروش.. عليك الله كلمني.
“الدقيل” قالوا “حماد” القصاري جاي يخطب “خديجة” من “كركاب”
“كلتوم” أنت عوير “خديجة” قدرشنها للعرس و”حماد القصاري” متين خلى عتالة الفول.. والفحم وشراب المريسة في بيت “خميسة” ورا.. يقول داير “خديجة”؟
“الدقيل”.. لكن أخواتو ذاتم رافضين.. عشان “خديجة”!!
“كلتوم”.. “خديجة” مالها؟ هوي “الدقيل” والله بتي ما فيها كلام.
“الدقيل”: قالوا ما مطهرة!!
“كتلوم”: القالو ليهم منو؟.. طهارة البنات ممنوعة والله لو واحدة قالت الكلام نوديها القاضي.. طوالي.. هي الحكومة دي قايلنها لعب..
“الدقيل”.. القاضي ما شغلته بطهارة البنات ولا الأولاد أنا ذاتي ما مطهر.
“كلتوم”: “الدقيل” خلي قلة الأدب قوم أحفر النقرة وأمشي شوف الطاحونة لو تم إصلاحها عندي دقيق دامقرى دققو لي..
“الدقيل”: أي “كركاب” ياكل دامقرى بملاح تقلية شرموط وسمن ونحنا تدينا ملاح اللوبيا، أخذ “الدقيل” يغني بصوته الرقيق الناعم الذي يناقض جسده المترهل وشفتاه المكتنزتين لحماً.
ناس أفراحا زايدة وناس يتألموا..
أطلق ضحكة.. وقال الليلة الخميس.. و”كركاب” جاء.. و”كلتوم”..
انتهرته بحدة أمشي يا راجل شوف الطاحونة وتعال الفطور لسه.. أنت “كركاب” داير منو شنو؟.
(2)
أطلق القطار صافرته وأخذ تهدئة سرعته.. نظر إليها نظرة وداع.. وأمسك بيدها الناعمة شعر بحرارة دافئة تسري في عروقه.. فكر في النزول بالمحطة القادمة.. والعودة مرة أخرى لمحطته باستغلال الدراجة ذات الإطارات الثلاث لكنه تذكر جوال الزاد الذي يفوق وزنه المائة كيلو جرام.. سألته بصورة مباغتة تنزل كيف يا “آدم” تخلينا.. نظرت إليه وخفضت رأسها إلى أسفل.. رن جرس الهاتف الذي تضعه في حقيبة اليد الصغيرة.. رفعت رأسها.. نظر إليها “آدم كركاب”.. تفرس الوجه الدائري والعيون التي تشع بريقاً وضياءً.. داعبت نسمة خصلات الشعر الذي يميل إلى السواد.. جلس “كركاب” بالقرب منها.. وبعض الركاب أخذوا في جمع حقائبهم لا يتوقف القطار إلا بضع دقائق ويستأنف رحلته نحو الغرب.. تمنى “كركاب” في تلك اللحظة أن تجرف مياه الأمطار قضبان السكة حديد كما يحدث ذلك في فصل الخريف.. ولكن المطر لا يهطل في الصيف حتى يتعطل القطار ويتوقف لساعات تمنحه مزيداً من الأنس مع من أحبه قلبه.. لم تستغرق المكالمة وقتاً طويلاً.. ظل “آدم كركاب” ينظر إليها.
نعم أنا في القطار..
المرحوم لم يترك وصية.. توفى فجأة غرقاً.. في البحر كان يركب معدية من تناقسي.
تمنى “كركاب” معرفة الذي يتحدث من الطرف الآخر.. طفقت تضرب يدها بالأخرى.. وهي تسأل والله القيامة قربت تقوم.. “الصادق” ود” كلتوم” بقى محافظ ومسؤول من الناس يركب العربة اللاندكروزر عدد من الحراس يحمونه من الناس.. “الصادق” سراق الماعز.. نعم الله بدي الجنة.. إذا كان “الصادق” المسجون في الأبيض سبع سنوات بقى محافظ ليه يقبضوا “حليمة إسحق” عشان شالت قروش من البنك وأكلتها.. قروش الحكومة حلال على ناس وحرام على “حليمة إسحق”.. والله “حليمة” أشرف من أي واحد عامل فيه إمام مسجد.. وبتكلم عن الشرف والأمانة والأخلاق.. عيال أم قزقة.. والله لو الرئيس جا البلد إلا يطلع زيتكم.. ولاد الكلب.
توقف القطار في المحطة.. وحمل “آدم كركاب” حقيبته والجوال الكبير وهم بمغادرة القطار ليعود لأهله وعشيرته وزوجته “كلتوم” التي تنتظره منذ أن غادر سنار وهي تحصي الساعات والأيام و”الدقيل” جاء محملاً بالدقيق من الطاحونة.. وضعه على الأرض.. وانتظر “كلتوم” أن تضع في يده مبلغاً من المال.. كان العطر يفوح من جسدها.. وهي تضع خمسة جنيهات في يد “الدقيل” الذي استنشق رائحة عطر يدها.. ابتسم وهو يضع النقود في جيب العراقي.. ويستنشق رائحة يده.. ويقول توعدنا يا رب.. انتهرته كلتوم أمشي يا ممسوخ أنت في مرأة بتدورك؟.
“الدقيل”: هوي والله النسوان جاريات وراي جري ما ذي بنات الزمن دا.
(3)
نظر “كركاب” إلى القطار وفي نفسه رغبة دفينة ليبقى بالقرب من السيدة التي سحره ألقها وجمالها.. وتذكر “كلتوم” وإخلاصها ووفائها.. ورفضها الزواج من ابن عمها ومقاسمته مر الظروف وقسوة أيام أن حل بالبلد الجدب والقحط.. واضطرت الأسر لتقتات أوراق شجر التبلدي وتمر الكرسان المُر.. كانت “كلتوم” تغلي الكرسان وتطحنه على المرحاكة.. في ذلك العام نشبت مشكلات بين الرجال والنساء.. كان الرجال يتهمون زوجاتهن بتبديد الدقيق وتركه بتساقط بين (اللدايا) والنساء يدافعن عن أنفسهن بأن الدقيق قليل.. وأصبح بعض الرجال يصنعون العصيدة بأنفسهم حرصاً على دقيق الذرة ودقيق الكرسان.. إلا “كركاب” الذي هزلت زوجته “كلتوم” وضعفت ووهن عظمها.. وهي تحمل في حشائها جنيناً.. فأخذ “كركاب” على عاتقه طحن الذرة بنفسه في المرحاكة.. وهو يغني ساخراً على الرجال الذين يصوطون العصيدة.
السنة دي سنة صرما..
رجال عوين قطعوا البرمة
ناس أنحنا الله يسترنا..
و”كركاب” راكعاً على ركبتيه يطحن الدقيق و”كلتوم: إلى جواره تضع الملاح.. وأضطر “كركاب” بسبب الجوع قتل كلبه الأبيض.. حتى لا يقاسم أطفاله العصيدة التي يصنعها وقد أقلعت كلاب الحلة عن النباح بسبب الجوع الذي هد قوتها.. ونخر في عظمها.. طافت تلك الصورة في مخيلة “كركاب” وهو متنازع ما بين المضي قدماً نحو المرأة الجميلة الساحرة وما بين “كلتوم” التي كانت تجلس على أريكة وقد تسلل صوت القطار من بعيد وهو يغادر محطة أبو زبد.. تذكرت أنها وضعت كرتونه الكسرة العسلية عند جارتها “خديجة” بنت الشيخ “صابون”.. فهرولت نحو جارتها قبل وصول “آدم كركاب”.