عودتي إلى " الخرطوم " وسط القادمين من (العراق)
د. غانم عثمان
عندما حان موعد سفري إلى وطني عن طريق الخطوط الجوية المصرية، لم أنم في الليلة السابقة إذ كنت أتخيل ماذا سيكون حال وطني بعد هذه السنين الطويلة. في مطار القاهرة كنا أول القادمين، والصالة التي سنغادر منها صالة بائسة.. معدة خصيصاً للسفريات القادمة من والذاهبة إلى الدول العربية. بعد ذلك بدأ يتوافد إلى نفس الصالة عدد كبير من أبناء وطني. تبدو عليهم تعاسة لا تخطئها العين، وقد علمنا مؤخراً أنهم قادمون من العراق حيث كانوا يعملون في أشغال شاقة.
جلست هناك واجماً.. تتملكني رهبة كلما أكون وسط جمع كثير من الناس.. في مثل هذه المواقف تأتيني ذكريات الطفولة تترى.. لعلها ذكريات تردعني عن استعلائي على هؤلاء القوم البؤساء.. أيام عطلة المدارس كنا نذهب لـ(نشتغل) في طريق (عطبرة- بربر- العبيدية) وقد كانت هناك عربات “قلابات” كثيرة.. كنا نقف صفاً عندما يأتي رئيس العمال ليختار الأقوياء للعربات القوية، والضعاف للعربات القديمة التي بها أعطال.. لقد كان نصيبي دائماً من العربات القديمة.. أذكر فيمن أذكر “عمر عبد الله”، “محمد الغصين”، “هاشم علي العاقب”، “محمد سعدي”، “عثمان شاويش”، “السر ود القبلة”، “مبارك النجومي”، “محمد البشير عبد الماجد” وآخرين كثر.. كانت عربة القلاب تسير بنا زمناً طويلاً في الصحراء حيث مكان الرمل الجيد، كان الواحد منا عندما يملأ “الكوريق” بالرمل ويحاول إفراغه في القلاب، يرتد الرمل إلى وجهه ورأسه.. استمر الحال هكذا حتى انتصف النهار ولم نستطع أن نملأ عربة القلاب.. حتى أشفق علينا السائق، ورجعنا من غير رمل.
لقد كنت ألبس بدلة فاخرة انتقيتها من أحد دور الأزياء الشهيرة في شمال أمريكا لحضور إحدى المناسبات الخاصة.. وهذا جعلني فريداً وسط هذه الجمهرة من السودانيين التعساء.. نسيت تماماً أنني ابن قرى كنت ألبس “العراقي والسروال”.. إنها جرثومة الحضارة الغربية اللعينة التي تبعث في الشخص الغرور وحب الذات.. إنني أنظر لكل هؤلاء السودانيين نظرة دونية لمجرد أنني قادم من شمال أمريكا.. ونسيت تماماً أنني كنت أعيش كما يعيشون أو ربما أسوأ في ماضي التاريخ.
أثناء فترة انتظاري الممل هذا وعلى الرغم من الشوق الدافق لأهلي، إلا أنه تأتيني تصورات شاذة مثل “لماذا قمت بتوريط نفسي في سفر ممل مثل هذا إلى دولة نامية تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة؟” لكن سرعان ما أرجع لنفسي وأعاتبها وأزجرها عندما أتذكر أنني ابن قرى نشأت على الفضيلة وسط أهلي البسطاء ذوي الشهامة والكرم وسمو الأخلاق.
في أثناء سيري إلى مقعدي في الطائرة أعاق طريقي أحد أبناء وطني عندما كان يحاول وضع أمتعته في دولاب في سقف الطائرة. ولما كنت فريداً وسط القوم ببدلتي الفاخرة، أو كما تخيلت، لاحظ بعض المسافرين اشمئزازي فانتهروا ذلك الشخص التعيس لفتح الطريق لي. شعرت بالندم لما بدر مني حيث إن هؤلاء المسافرين من الطبقة الكادحة التي هي طبقتي، خدعهم منظر هندامي وبدلتي الفاخرة وحسبوا أنني رجل أعمال أو صاحب ملايين.. وأخيراً أخذت مقعدي بالقرب من النافذة، وذلك حتى يمكنني أن أرى العاصمة من على البعد لحظة هبوط الطائرة.
أجهزة الفيديو عرضت لنا ولأول مرة إرشادات النجاة والسلامة باللغة العربية بواسطة مضيفة مصرية فاتنة الملامح.. وقد كان لهذا الافتتاح باللغة العربية أثر كبير في تهيئة نفوسنا وجذبها للوصول إلى أرض الوطن.
المضيفات المصريات داخل الطائرة كن يخدمن المسافرين باشمئزاز واضح بحكم المظهر العام لهؤلاء المسافرين البائسين.. المؤسف حقاً أن المظهر دائماً ما يوضع له كبير وزن.. وفي نظري أن هؤلاء البائسين مظهراً يحملون في دواخلهم قلوباً ملؤها العطف والحنان والمحبة لأهلهم ولغيرهم وهي وجوه لا تعرف الحقد والظلم والعداوة.
عندما حلقت بي الطائرة في سماء وطني بدا لي الجو قاتماً، والغبار الكثيف يحجب الأفق.. إنه وطني.. بعد هذه السنين الطويلة لا تغيير يذكر.. وعندما بدأت الطائرة في الهبوط وأعلنت المضيفة أننا نحلق في المطار استطعت أن أتبين الكثير من المناظر المألوفة مثل كوبري النيل الأزرق وقاعة الصادقة ونقطة التقاء النيلين، وسارت الطائرة جنوباً حتى مستشفى سوبا، حيث أتت راجعة مرة أخرى حتى أخذت طريقها في المجرى الرئيسي لهبوط الطائرات. في هذه الأثناء تحدث أحد الأشخاص في المقعد الذي أمامي عن العاصمة وذكر أنها عاصمة غير منظمة ومبانيها مشتتة.. ورد عليه زميله ساخراً عليه بأنهما أتيا من عاصمة الحضارة بغداد، حيث لا وجه للمقارنة.. من خلال هذه المحادثة غشيتني تصورات غامضة ومقارنات شاذة.. إنني زرت معظم مدن العالم المشهورة وأرى نفسي في موضع أقدر من هذين الشخصين في التعليق على عاصمة بلادي.. ماذا سيقول هذان الشخصان عن الخرطوم لو زارا أكثر مدن العالم ضجيجاً وصخباً مثل نيويورك ولوس أنجلوس وسان فرانسيسكو وشيكاغو.. إن بغداد في نظري لا تقل سوءاً عن الخرطوم!! رجعت مرة أخرى لمعاتبة نفسي.. إنني أعلم علم اليقين أنني مصاب بالغرور، فقلما ينجو أحد من جرثومة الحضارة الغربية اللعينة.
نزلنا من سلم الطائرة ودق قلبي بعنف وظهر عمال المطار الذين يمثلون إحدى شرائح المجتمع السوداني الفقيرة.. لقد علت البيئة السودانية القاسية ولفحة الشمس وجوههم البريئة.. الأنظار كلها متجهة نحوي أو كما تخيلت.. أنا صاحب الرونق الزائف ربيب الحضارة الغربية.. وعندما مررنا بمسؤول الجمارك كان يسأل الناس عما إذا كان بحوزتهم عملات أجنبية للإعلان عنها، وعندما جاء دوري لم يسألني كبقية الناس حيث شعرت أنه يريد أن يتجنب الحرج بسؤالي أو كما تخيلت.
من على البعد وبعد انتهائنا من الكشف الجمركي استطعت أن أتبين وبصعوبة وجه أخي الأكبر “غالب” وقد كنت أتخيل شعر رأسه الذي صار أبيض تماماً قبل أن أراه.. من خلال سير الإجراءات البطيء بدأنا نقترب قليلاً من صالة المستقبلين.. كنت أتصور نفسي وكأنني في واحد من أحلامي الليلية الكثيرة في شمال أمريكا.. أخيراً وجدت نفسي وسط جمهور المستقبلين.. أخي الأكبر كان شعره أكثر بياضاً مما تخيلت. وأخي الذي يصغره “غلام” لم أكن أتوقع أن أرى علامات الشيب على رأسه ولحيته، وقد بدا لي أكبر مما توقعت.. أحد أقاربي حياني من على البعد ولم أستطع التعرف عليه إلا بعد صعوبة شديدة.
الآن أنا وسط أهلي.. إنها نقلة كبيرة من قمة العالم إلى أدناه.. الساعة الثامنة والنصف صباحاً.. الجو شديد الحرارة.. قال لي أخي الأكبر إن الجو في هذه الساعة من الصباح بارد نوعاً ما وأنا أتصبب عرقاً كأنه قذف بي في فرن ذي حرارة عالية.. سيارة أخي التي اكتشفت أنها من أفخر السيارات مؤخراً بدت لي هرمة وقديمة.
عندما أخذت العربة طريقها عبر الطرق الوعرة اندهشت جداً لمنظر الناس في الشوارع العامة وهم يسيرون تحت حرارة الشمس الخرافية التي تلفح الوجوه، وقد بدا لي كأن هؤلاء الناس يتعذبون بهذه الحرارة القاتلة، وكأنني لم أكن في يوم من الأيام أسير فيها قبل أن أذهب إلى الغرب.
وجوه الناس متغيرة.. والكثيرون، من الشباب، الذين يصغرونني في السن علا الشيب رؤوسهم وشواربهم ولحاهم، هذا إضافة إلى وجوههم المتغيرة بفعل حرارة الشمس.. في منزل أخي بأم درمان لم يكن اليوم الأول بالنسبة لي سهلاً.. ابنة أخي التي تركتها لا تعرف الكلام أسمعها تتحدث بطلاقة وكأنني في حلم، وابنه الصغير الذي تركته في عمر الرضاعة ما استطعت أن أميزه من بين عدد من الأطفال أمام المنزل.