كيف.. ومتى.. ولماذا نغني للوطن؟؟
التجانى حاج موسى
اجتماعات مكثفة تنعقد هذه الأيام ويؤمها نفر من رموز الإبداع في مجال الغناء والموسيقى السودانية بغرض الإعداد لمهرجانات للأغنية الوطنية السودانية.. لجنة برئاسة الموسيقار الفنان “محمد الأمين” الذي طرح مبادرته بضرورة إقامة مهرجان للأغنية الوطنية.. وأخرى برئاسة الفنان “محمد ميرغني”، واللجنة الثانية تنعقد بإذاعة بلادي وأيضاً مهرجان للأغنية الوطنية.. ترى لماذا طُرحت تلك المبادرات وفي هذا الوقت بالذات؟
أظن– وأرجو أن يكون ظني في موقعه– وأقول.. أهل السودان يحبون الغناء، يحبون الشعر والدوبيت.. أهل الحضرة والطرق الصوفية يتغنون محبة في الرسول الهادي المصطفى “صلى الله عليه وسلم”.. وأهل السودان حتى في أحزانهم يطلقون حناجرهم يرثون موتاهم.. كل أمهاتنا هدهدن أطفالهن بالأغاني.. أرضعنهم مع الحليب الهدهدات والأغاني.. كلنا رضعنا الغناء مع الحليب وأرجو أن يوافقني علماء الاجتماع بأن للغناء أثراً كبيراً في بناء الشخصية السودانية والتي كثيراً ما تذكر بالتميز.. لماذا؟! لأن الغناء يحمل رسائل الجمال والقيم الخيّرة المطلقة.. فالحب قيمة إنسانية لو عُمّر بها القلب لأصبح من يحمل ذلك القلب إنساناً مليئاً بالخير والنخوة والكرم والشجاعة والفرح والنأي عن الكره والحسد والضغينة.. وإن وجدت إنساناً مشرقاً تأكد أنه رضع مع حليب أمه غناءً جميلاً.
لذا أثمن المبادرتين في شأن إقامة مهرجانات للغناء الوطني.. واحدة من الأسباب المحرضة لقيام المهرجانات هي أن مكتبة الغناء الوطني السوداني قليلة قياساً بغناء العاطفة والحب.. وتساءل المهتمون بالثقافة لماذا توقف إنتاج غناء وطني؟! وأصبحت الأغاني القديمة هي التي تردد.
اللوم للأسف ساهمت فيه أجهزة البث المرئي والمسموع، والمنابر التي تنشر الغناء للأسف لا تبث الغناء إلا في الأعياد الوطنية والمناسبات السياسية حتى أصبح المتلقي يتساءل عند سماعه للغناء الوطني: ده عيد الاستقلال؟! إذن نحن نحتاج إلى نمط من سلوك إعلامي جديد تبث فيه الأغنية الوطنية دون انتظار حلول المناسبة الوطنية.. كذلك المارشات الموسيقية العسكرية ارتبطت بالانقلابات العسكرية في حين أنها نمط من أنماط الموسيقى السودانية العريقة.
وأقول للشعراء ومؤلفي الألحان والمؤدين للغناء في المهرجانات القادمة، انظموا أشعاركم بصدق وبحب، فالغناء للوطن ينبغي أن يتداعى محبة وصدقاً، لأن الوطن هو منشأ الإنسان ومنبته، عاش من خيراته وترعرع في كنفه ومشى على ترابه، وظللته سماء (وللأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق).. (بلادي وإن جارت عليّ عزيزة.. وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام).. و(أعز مكان.. عندي السودان.. لأن حسانو أعف حسان.. طيرو صوادح وروضو جنان).. و(في الفؤاد ترعاهو العناية بين ضلوعي الوطن العزيز).. و(عازة ما سليت وطن الجمال وما ارتضيت بديل غير الكمال).. وأغنيات عديدة جادت بها قرائح شعراء بلادي منها ما حفظته الذاكرة الجمعية ومنها ما ذهب إدراج النسيان.. لكن المؤكد أن الغناء الذي جادت به القرائح الصادقة المنفعلة بحب الوطن والمفاخرة بالانتماء له يبقى، والنظم الشعري المصنوع المنداح من قريحة لم تتأصل فيها معاني الوطنية مؤكد أنه لن تتناقله الأجيال.
شوفوا وأسمعوا (بتريد اللطام.. أسد الكداد الزام.. ودوك للمشنقة لا كليت ولا مليت.. تسلم يا عشاي اتفرشت واتغطيت).. و(كل أرجائه لنا وطن إذ نباهي به ونفتخر).. و(وطن الجدود نحميك بالأرواح نجود).. وهكذا تأتي الأغاني الخالدة المعافاة صادقة معبرة عن محبة متمكنة وراسخة في جينات المبدع، شاعراً أم ملحناً أم مؤدياً.. أغنية واحدة لأستاذنا الراحل المقيم “محمد عثمان عبد الرحيم” خلدت وخلدته.. صدح بها الوطني الرائع “حسن خليفة العطبراوي”– يرحمه الله – والغناء المعافى، وطنياً أم عاطفياً أم دينياً.. الخ إن لم يحمل بذور بقائه سرعان ما يموت ويطويه النسيان.. والغناء العافى لديه مصدات تمنعه من الفناء وتمنحه الخلود، والدليل أن كثيراً من الغناء الغث يخلق إعصاراً وضجة لكن سرعان ما ينساه المتلقي لأنه نشأ يحمل بذور فنائه.
نحن أحوج ما نكون للغناء للوطن لتأكيد قيمته، وليتربى أبناؤنا على محبته، يجلونه ويذودون عنه بالمهج.. ولنبدأ نغني مع أطفالنا برياض الأطفال ولينتظم أهل السودان غناءً عذباً له.. (نيلك.. أرضك.. زرعك.. بحبك من ما قمت.. بحبك يا سودان.. وهمي أشوفك عالي.. ومتقدم طوالي).