بُعد ومسافة
مصطفى أبو العزائم
1
سلك طريقه إلى مصر متتبعاً للنيل في رحلته الأبدية نحو الشمال. في رحلة البحث عن الشفاء من داء مباغت غادر، لم يكن أحد يتوقع من “عبد الرحمن محمد صالح” “مامان”، غير أن يسلك الطريق الذي سلكه النيل.عندما هاتفته قال لي إن خيار النيل كان لا بد منه فلا معنى للهند أو الأردن أو بريطانيا و”عبد المحمود” في مصر. وهنا أرخيت مع “مامان” عنان السمع اللصيق والضحكة الصافية:
-تكون الحكاية دي من شيل الجوز “الليل” الموية زمان يا “مامان”.
ويجيب: يمكن .. بس لا تبقى مضاعفات “لفخة” حمارة.
بعدها أنساب خط الهاتف بضحك غامر وفي البال الاتصال به في زمن عارم كاسح للمتابعة. ذكرته بأنني فقدت المقطوعات العديدة التي أداها وحفظها للزمن لأغنية المنحنى وطالبته بإعادة إرسالها عندما يعود. تلك سلسلة من الحنان والحنية ودموع العاشقين يختزنها “مامان” في أمعاء الهاتف وفضاء الله الكتروني.. الناسينا، الزول الوسيم، أسباب أذاي، شتيلة قريرا، مشتاقين، حلمك يا حبيبي، آسيا، ياهو الموت عديل، المنقة منقولا، العيد، فريع البانة، كيفن القليب الحمايم.. تشكيلات من العزف الجميل بلل بها “مامان” مفاصل غربتي الطويلة التي تكلست على أرصفة المدن البعيدة كان يضخها عبر هاتفه، وفي مدينتي البعيدة كنت أضع ألحان “مامان” في صيدلية قلبي وعقلي باحثاً عن تلك الأزمنة الشجية وحالي كالباحث عن رموش حبيبته :
“في عش فاضي فوق راس تمرة
…طار جوز قمري منو وفرأ”
وكمن يسائل الجلابة في صحراء بيوضة والعتمور عن نغم ضاع في الرمل من غفلات الحداة مفجراً للعقل والقلب والذاكرة.
2
ولم لا يسلك “مامان” مجرى النيل في رحلة بحثه عن الشفاء؟
إن علاقة “مامان” بالنيل هي علاقة المنتِج والمنتَج فهو هبة النيل لأنه نتج عن عرق الحرث والزرع والحصاد.. أغاني الرعاة وترانيم الساقين لحقولهم عِشاوي وفجراوي, “مامون” هو صوت اندلاق الماء من ماسورة باجور القرير إلى مسيل الجداول التي نورت في جنباتها فيوض اللوعة وأغاني الحنين وتوسلات العاشقين. من كيمياء “خرشة طنبور “مامان”، السالك في درب هذا الصوفي المتعبد في محراب معاناة العاشق ووله الذين عصفت بهم الأشواق، يحس أن عزفه يوقظ الحنين من كل أركان الأرض ويعلبه في كبسولات مضادة لمعاناة العاشق يرشف الراشف لتناولها من النيل فتضخ في شرايينه آمال الوصل ورضاء الم حبوبة وسهولة الدرب نحو رموشها أو مضارب أهلها. مع عزف “مامان” تحس بأنك في مركب على النيل يتحرك إلى الأمام بخرشة أسباب أساي، وتراني حلفت بى الله، والطيف، وكفارة البيك يزول. آه لو زال البيك يا “مامان” وعدت من جديد متسلقاً للنخل ومجدداً لجريده القديم بمنجل حنون لا يجرح بجيل جديد من ألحان الصفاء والصبابة يمر عبر قناة صحتك الصافية وقامتك العالية وقلبك المليء بأسلاك الطنابير وأصوات القماري.
لِمَ لا يسلك “مامان” مجرى النيل في رحلة بحثه عن الشفاء؟
منذ صباه والنيل والظلال وطعم المانجو والبركاوي والقنديل وترجيعات الخرير في العشاوي والفجراوي هي عالمه. طول النهار “مامان” “مصنقر” فوق البحر فهو الشارب منه والسابح فيه “ضهر” و”تـسديرة ” والـ”قارع ” من مويتو و”المشرِّك” فيه . إنه المتصنت لصافرات الـ”جلاء” و”كربكان” تمخران العباب المبارك ربما حملت إحداها آسيا التي حل بابورها في الأراك. من ولهه بهذا النهر المبارك، تمكن من تسجيل حركة الأمواج و”بلجة” كور أو “عرة” أو بياضة داخله ليرسلها لنا مؤكدا حركة الحياة على ذلك النهر وإن نفض السمار وارتحل العاشقون.
مفردات النهر هي الوسائل الصديقة لإبداع “مامان”.. النخلة، شدرة المانجو والليمون والريحان والعيش ريف و”مامان” النخل هنا رجل “القفوزة” و ألوضّيب ” والحش و”النجِّيم” والري وقطع الجريد والعراجين, والقصب من مفردة معزوفات “مامان” النيلي فهو يعزف لك حركة قصبة مرتوية من صرة النيل يحركها النسيم يميناً وشمالاً “قصيبة قيفك ..في الرقيص على كيفك” و”مامان” هنا يحمل شارة الزول الوسيم والعيد ويا حمايم وتلك “الورجغة” الجميلة أيام الواردة العصير “لعبد الوهاب درار” وأشعار “محمد سعيد وحسن الدابي وخدر محمود”. وهنا ظل “مامان” مؤرخ الغناء الجميل ومنظم صفوف الليالي المقمرة.. “مامان” غنا نشوان بي عبيرو.. يا سلام !! إليك يا “مامان”.
3
“مامان” الذي هو أحد مقاطع وكل مقطوعات الشجن الجميل التي ستظل لا مقطوعة ولا ممنوعة هو عالم الإحصاء والاقتصاد المتخفي تحت وأسوق أو ضل تمرة و”مامان” خبير المصارف هو ابن القرية البسيط الحنون المجامل الصافي .لكنك لا تملك إلا الدهشة وأنت ترى في ثنايا تلك البساطة عقلية مؤرخ الفن والتراث عبر العديد من التوثيقات واللقاءات والعروض النقدية لأغنيات المنحنى. استمعت إلى أحد موضوعاته يستعرض طريقة الأداء الدرامي عبر الربابة “للنعام آدم” في أغنية “فريع البانة.. مرحبتين حبابك”. إنه هنا يبين كيف أن “النعام آدم” يجري اللحن بحسب مضمون مقطع القصيدة فمن رنة حنونة مسالمة دافئة للترحيب بمقدم المحبوبة في “مرحبتين حبابك.. واليوم السعيد الليلي جابك” يتغير العزف بما يعكس إيماض البروق وهدير الرعود في :
رعدك جار يكركر غيمو شابك
برقك شال يضاحك في سحابك
ويأتي “النعام” بفيض لحني متغير حينما يأتي على :
من رش المطر خايف حرابك
وخايف من دموعو على ثيابك
فتحس أنه يمطر صبابة ويتدفق لوعة.
“مامان” الذي رحل ترك الكثير وحمل معه الكثير وذهب فلقد نجد في ثنايا أوراقه وما يحفظه محبوه ما يخفف عنا الفقد ويقينا من آلام جرعات الأسى وتجرع أوجاع الذكريات …رحمك الله أبو “محمد” وأنعم عليك بالرحمة في جنانك ونم هانئا يا “خرشة” السلك الحنين في مستقر الرحمة وفيوض المغفرة.
“مامان”: رحيل السلك الحنين
د. “عبد الرحيم عبد الحليم محمد”